لماذا أخفقت النخبة السورية في إدارة الأحداث السورية؟.
عند الحديث عن النخبة السورية لا بد تحديد الجهة المقصودة بهذا المعنى، فالنخبة هي الفئة التي تتعاطى «الشأن العام» وكان لها فرص الحضور في المشهد السوري، ولا يشترط أن تكون محصورة في الأكاديميين، والبعض من النخبة هم منتجات حزبية تعايشت مع الديكتاتورية المعمِّرة.
لا بد من تثبيت حقيقة تقول: إن الثورة
السورية هي ثورة شعب تفجرت من الضمير الجمعي للشعب السوري الواقع تحت وطأة الظلم
وقبضة الاستبداد. وتثبيت حقيقة أن النخبة السورية-في معظمها- التحقت بالثورة
السورية بعد تردد، وجاءت على خجل، وكانت تراقب موازين القوة، وإلى أين ترجح الكفة،
وكثير منها كان يحسب الأمور بميزان مصلحته الشخصية، وبعضها الآخر قايس الأمور
وفقاً لمصالح حزبه الضيقة.
دخلت النخبة السورية في ثورة الكرامة حاملة
مناظير الماضي وتصوراته، فراحت تقرأ الحاضر بمفاهيم عتيقة دون إجراء «تحديث»
لمعلوماتها وقواعد تفكيرها، وأدواتها، فوصلت إلى استنتاجات، خاطئة وافتقدت إلى
إنتاج الحلول الناجعة، فكيف تنتج الحلول وقد استحضرت كل أعداء الماضي والحاضر وأعداء
الإيديلوجيا؟.
تنتمي النخبة السورية إلى إحدى المدارس
الأربع: مدرسة «الإسلام السياسي» والمدرسة
«القاعدية» والمدرسة «القومية» ومدرسة «اليسار».
الإسلاميون سواء كانوا من جماعة «الإسلام
المسيس» أو القاعدة متقاربون في توجهاتهم مع فارق الإشهار والإخفاء، فقد أقحموا
مفهوم «تطبيق الشريعة» من خلال الدعوة إلى «إقامة الخلافة»، فتشتت الناس في
مبتغاهم، وضاع الهدف الأصيل الذي ثار الناس من أجله، وتفرقت الصفوف في وقت احتاجت
فيه إلى التوحد. كما أقحموا «الطرح الأممي» في الثورة السورية، محملين الشعب
السوري هموم الأمة جمعاء، حتى لو تصادمت مع الهم السوري، وأطالت في عمر أزمته،
فهؤلاء قللوا من قيمة الثورة السورية باعتبار سوريا جزءاً من الأمة وللأمة هموم
ومشاغل أخرى يتوجب على السوريين العمل لأجلها، ومن هنا تم تضييع القضية السورية في
قضايا أخرى وتتضاءلت أهميتها على ضخامة حجمها. ويتم إخفاء العدو الحقيقي للشعب
السوري بأعداء آخرين يستجلبونهم من أدبيات قضايا أخرى.
أما أرباب المدرستين القومية واليسارية
فكانوا في تقارب واضح، حيث اعتبروا أن «القضية الفلسطينية» هي قضية العرب
والمسلمين الأولى، وأن الصراع العربي الإسرائيلي هو معركة الوجود الأزلية، وحين
تتعارض قضية الشعب السوري مع القضية الفلسطينية فعلى السوريين أن يأخذوا من قضيتهم
لصالح تلك القضية. ويستذكر هؤلاء مزاعم وقوف الاتحاد السوفييتي أو روسيا حالياً مع
القضايا العربية ضد «الامبريالية العالمية» بزعامة أمريكا فتظهر مواقفهم ليِّنة مع
الروس حتى لو قتل الروس آلاف الأطفال السوريين فضلاً عن الكبار.
معظم النخب السورية المنتمية لتلك التيارات
بقيت مؤدلجة وبنسب متفاوتة والقليل منهم من نجح في التحرر من التراث الحزبي
العتيق.
وعانت النخبة السورية التي التحقت بثورة
الكرامة السورية من موروثات عهد البعث فظهرت ثوريتهم برائحة بعثية. والأدهى من ذلك
أن جزءاً من النخبويين كانت مصالحهم مرتبطة بالجهات الأمنية التابعة للنظام طلباً
لحماية أنفسهم من بطشه، أو نفاقاً زائداً لا داعي له. وحين التحقوا بالثورة بحثوا
مباشرة عن المصالح والمنافع التي يمكن أن يتمصلحوا عليها، فتوجهوا للإغاثة والإعلام
ومؤسسات المعارضة.
دخلت النخبة في صراع داخلي فيما بينها، ما
بين إسلامي وعلماني، لكن الصراع حسم مبكراً لصالح الإسلاميين الذين امتلكوا الحظ
الأوفر من المال، المال الذي كان له دور كبير في تعايش جزء كبير من النخبة ممن
تصدروا المشهد على وجه الخصوص. لكن الصراع يتجدد عادة عندما تجف منابع المال، أو
عندما تواجه الثورة استحقاقاً سياسياً معيناً، ومع ذلك فإن ما يريده الإسلامويون
هو الذي يحدث عموماً.
لقد كانت النخبة السورية المعارضة في معظمها
تنظيرية، تبحث في كل شيء إلا في جوهر القضية ومركز المفهوم، نبشت قبور التاريخ
لتحاكم ساكنيها، وكأنها تعتقد أنها لا يمن أن تتقدم خطوة للأمام دون حسم لقضايا
التراث وأحداث الماضي كلها. وعلى الجهة الأخرى رأينا نخبة لا تتحدث إلا عن
المستقبل ممنية النفس بسوريا الغد، مسهبة في أدق تفاصيل «إنشاء الدول». في الوقت
نفسه عجزت النخب العقيمة عن إيجاد حلول عملية لمعالجة الواقع الملحمي وتخليص سوريا
من يد الطغاة والغزاة.
لقد ابتعدت النخبة السورية المعارضة عن فكرة
التخطيط والإدارة والتنظيم ووضع البرامج المشاريع بما فيها «خارطة الطريق» التي
تتضمن برنامجاً سياسياً محدداً يتأسس على فكرة أن الصراع في سوريا هو صراع حقوقي بين
شعب طالب بحقه بالحرية والكرامة والحياة الآمنة وبين طاغية مستبد مارس كل أنواع
القمع والتنكيل قبل الثورة وبعدها. كما تتضمن خارطة الطريق مشروعاً وطنياً جامعاً
يؤسس لبناء التلاحم الوطني بين أبناء الوطن الواحد على قاعدة المواطنة وحب الوطن
وسيادة القانون.
تميزت النخبة السورية بالجبن في مواجهة
القضايا الحاسمة والمركزية في كل شيء، فعند الحديث عن «المشكلات» يتعرضون لأمور
ثانوية تشبه أعراض المرض مبتعدين عن أصل المرض، وعند الحديث عن الأهداف يختفي
الهدف الأول الذي خرج السوريون من أجله، وعند الحديث عن الحلول تغيب فكرة الحل
الصحيح المتعلق بالبرامج الهادفة لتفكيك عصابة النظام وتبديد جهوده.
ظنت النخبة السورية المعارضة أنها حين تلجأ
إلى الهدوء وتلوذ بالديبلوماسية المائعة فإنها بذلك تمارس السياسة في أعلى
مراحلها، فغاب عن شخوص النخبة ذلك الانفعال الوجداني الدال على ارتباطها بشلال
الدم الهادر، واختفت تماماً ملامح الغضب الذي عادة ما يظهر على الثوار الملتصقين
بهموم شعبهم والمتمسكين بتفاصيل قضيتهم، وكانت المسافة شاسعة بين المثقف والثائر،
الثائر الذي ترك وحده بعيداً نسبياً عن المعرفة والثقافة التي كان على النخب أن
تقدمها له، لكن النخب كانت حبيسة لوداعتها بعيدة عن وهج البركان المستعر، حتى
احتاجت الثورة إلى فكرة «تثوير المثقف وتثقيف الثائر».
ابتعدت النخبة كثيراً عن الطبقة الشعبية التي
أطلقت ثورة الكرامة السورية، وربما لم يشاهد كثير من النخبويين أحوال الناس على
الشاشات خشية انخداش مشاعرهم من مشاهد الخيام وهي تطير فوق رؤوس أصحابها، وسيقان
الأطفال الغاطسة في وحي الشتاء، ومشاهد البؤس والمرض والشقاء، فالمعارض الذي
يتحاشى رؤية مواجع الشعب وفواجع الناس هو كالطبيب الذي لا يريد الكشف عن موضع
المرض لمراجعه، ويدعي أنه سيعالجه.
والأعجب من ذلك أن بعض النخب ظنوا أن النأي
بأنفسهم عن الناس هو من مكملات العمل السياسي، فالسياسي الناجح هو الذي لا يتنازل
لمستوى الشعب المكلوم.
لكن الأصعب من ذلك كله هو أن بعض النخب
يعلقون فشلهم على الشعب السوري الذي قدم تضحيات غير مسبوقة، واصفين الشعب بأنه لا
يستحق الحرية والكرامة، وأجزم بأن أمثال هؤلاء هم أقرب للنظام من قربهم للثورة،
وواضح أنهم جديرون بالعبودية.
من
مشكلات النخبة السورية أنها بقيت متخلفة عن تطوير رؤاها وتحديث برامجها فلم تواكب
التطورات ولم تجار المتغيرات وظلت عاكفة على كتب عتيقة سبق لها وأن قدمت قراءات
مجمَّدة عن الواقع بشكل عام، الواقع الذي استدار ألف دورة بعد أحداث الربيع
العربي، فتغيرت التحالفات وتبدلت المصالح، والمثقف السوري لازال يعيد الحديث نفسه،
وكأنه قد أعدَّ تحليلاً واحداً «مسبق الصنع» لكل الأحداث وفي كل الأزمنة وأراح
عقله.
كما أراح المثقف السوري عقله عندما استخدم «نظرية
المؤامرة» في تفسير الحدث السوري، فقد أغلقت النخبة السورية الأفق بوجه الشعب
السوري الواقع تحت ضغوط نظرية المؤامرة الكونية فلا تسمع منهم سوى الحديث عن عالم
كامل يتآمر على شعب طيب لمجرد أنه طالب بالحرية والكرامة.. وعن عالم مجمع على حب
الأسد ومغرم ولهان به، مجتهد ببقائه في السلطة يقتل ويعذب ويطرد من يشاء. لتزداد
الضغوط على النفسية السورية فتصاب الهمم بالشلل فكيف تعمل لقضيتها وهي تشعر بأنها
تواجه عالماً متحداً عليه؟.
لقد كان خطاب النخبة السورية رخواً مترهلاً
مفرطاً بالدبلوماسية الباهتة، من حيث ظنت النخبة أنها تتعاطى السياسة بأجلى
مضامينها، فحين تقدم النخبة رؤيتها للحالة السورية تتحدث بالعموميات وتفلسف الأمور
إلى درجة أن المتلقي يحتاج إلى بذل جهود مضنية ليتحصل على فهم ما يقولون، في حديث
يشبه إلى حد بعيد أدبيات «حزب البعث».
حين تتحدث النخبة السورية عن الشأن السوري
تغيب كل المفردات الضرورية لوصف المشهد فيبدو الأمر وكأنهم يتحدثون عن قضية أخرى
لا تشبه القضية السورية. وكأنهم يخوضون تحدياً يقول لهم: هل تستطيعون التحدث عن
القضية السورية دون ذكر هذه المفردات: «الثورة والشهداء والتضحيات، وجرائم الحرب،
والكيماوي والمعتقلين وايران»؟. وللأسف ينجحون بالتحدي!.
أغرب ما في أمر النخبة السورية أنها لا تمتلك
حتى اللحظة «خارطة طريق» تحدد بوضوح ملامح الطريق الذي تسير عليه. والأكيد أن سبب
ذلك هو تصادم القضايا في العقلية المثقفة، فالمثقف السوري مصر على حمل كل القضايا
في عقله ووجدانه، مع عجزه عن حمل قضيته السورية منفردة. وبالنظر إلى أن القضايا
تتعارض فيما بينها فمن المستبعد أن تنجح النخبة بوضع خطة عريضة وتصور كامل عن
مراحل الدرب الشائك.
لقد وقعت النخبة السورية في كل الأفخاخ التي
نصبت لها ولم تنجُ من واحدة منها!. فرأيناها تتبادل البسمات مع زعماء الاحتلال
الروسي وتنسق المواقف والجهود إلى درجة أننا سمعنا من النخبة من يقول: «إن مواقفنا
متقاربة مع الرؤية الروسية». وآخر يقول: «الشمس تشرق من موسكو». فقبلوا بمسار «أستانة»
الذي استرد الأرض من سيطرة الثوار، وانخرطوا في نقاشات اللجنة الدستورية، كما
ابتلعت النخبة «طُعمَ رايات القاعدة» واحتضنت الخطاب المتطرف، هذا وغيره يدعو
للاعتقاد بأن من صمم خطاب النخبة عموماً هو النظام نفسه الذي انتفض الشعب السوري
ضده.
كل ما تقدم كان سبباً في جعل النخبة السورية
تفشل في التوحد ولو بالحد الأدنى.. مع أن العوامل التي تدعو إلى التوحد متوفرة،
وفي مقدمتها تلك الملحمة الكبرى التي توحد بين الأعداء فيما لو عقلوا ومع ذلك
وجدنا محنة بحجم التي أصابت الشعب السوري لم تكن كافية لتوحد النخبة السورية،
وخاصة أن هناك من أحدث انقساماً عمودياً في صفوف النخبة حين دفع بمصطلح العلمانية
إلى الواجهة، فتيار «الإسلام المسيس» اتهم كل من خالفه الفكر بالعلمانية والتيار
العلماني أصر على طرح العلمانية كحل مستقبلي لسوريا، فبدا وكأنه يضايق الشعب
السوري الذي يتطلع للخلاص من حكم الديكتاتور وإقامة دولة العدل والقانون، دون
الحديث عن العلمانية المرفوضة في العقل الجمعي للشعب السوري.
عبد الناصر الحسين
ليست هناك تعليقات