آخـــر ما حـــرر

ثقافة المحن تجلب الهزائم



عندما تصاب الأمة بمزيد من الهزائم والإخفاقات، وتفقد أسباب النصر والنهوض، فسوف تشيع فيها ثقافة المحن، تلك الثقافة التي تعني أنه من المستحيل أن نبصر النصر إلا من تحت أنقاض المآسي ونزيف الجراح والأشلاء، وأن النجاح لا يتحصل إلا بعد الإخفاق المتكرر، مع أن القاعدة الطبيعية تفيد بأن الإخفاق يجلب إخفاقاً وأن الهزائم تجر هزائم أخرى، لأنها تسلب المنهزمين معظم طاقاتهم التي كان يجب توظيفها بطريقة تجلب النصر، بعد تعبئة العناصر بثقافة النصر ورفض ثقافة الانهزام.

ثقافة المحن جعلت المتصدرين يربون الأجيال على مفردات بعينها كالصبر والأمل والتوكل والترجيع، لتنشأ حالة من السلبية متمثلة بالتقاعس والاستسلام والقدرية، ويصوغون خطاباً يتحدث عن حتمية انبثاق الفجر بعد حلكة الظلام، وهدأة العواصف بعد الثوران.

لم تكن المحن يوماً من الأيام مفخرة يباهي بها صاحبها ولا زينة يتزين بها العاجزون، لكنها علامة من علامات الانحطاط وسمة من سمات الإحباط، وذلك حين تصبح المحن غالبة على حال الأمة، كلما خرجت من محنة دخلت في غيرها.

والغريب أن يفاخر البعض بالمحن والشدائد بوصفها تصنع الرجال، وتنجز المحال، ليكون طبيعياً بعد ذلك أن يخلو الطريق من كل شيء إلا من المحن والمصائب والملمات التي تعمي القلوب عن سلوك درب النصر والعز، فلا ترى إلا أمواجاً من البلاء تتبع أمواجاً بلا نهاية، وبعد ذلك يكون الواعي من الناس هو البارع في توثيق المحن بالتواريخ والوقائع، لتتلوها الأجيال القادمة معتزة بصبر الأجداد الذين لم ينجزوا سوى الصبر.

ليس الوعي أن نعي الأزمة وهي مدبرة وقد أطاحت بكبرياء الرجال، وجعلت عالي القوم في حضيض المذلة والهوان، لكن الوعي أن نعي الأزمة وهي مقبلة من بعيد فنتفادى أهوالها ونتحاشى مخاطرها، وأفضل من ذاك هو القضاء على الأزمات في مهدها وإزالة أسبابها، وأفضل منه الانتقال من: واقع إدارة الأزمات إلى واقع صناعة الأمجاد، وبناء النهضة والإمساك بأسباب القوة والمكنة.

علينا أن نفرق بين المحنة التي تأتي ملازمة للطريق كضريبة يدفعها كل من تبنى خيار الحق والعدل والحرية، وبين المحنة التي تأتي بفعل الفوضى والجهل والارتجالية، فهذه «ورطة وليست محنة»، ومن العجز بمكان أن تكون المحنة مفخرة، ومن التيه أن تصبح المحنة منهجاً، ومن العار أن تغطي المحنة الطريق كله بطوله وعرضه وكل مراحله، لأنها لا تصبح عندئذ محنة بل هي هزيمة واندحار.

المفخرة الحقيقية هي ميادين الشرف والبطولات. بأي ثمن وتحت أي ظرف علينا ألا نسلِّم ظهرنا للجلاد يجلدنا ويشتمنا ويمسح الأرض بنا، فهل قدر الأمة أن يقضي شبابها نصف العمر محتجزين بأقبية الظلام تحت التنكيل والتعذيب يعدُّون القمل ويكافحون الجرب؟ ثم يمضون النصف الثاني- إن كتبت لهم النجاة أصلاً- في سرد حكايات المحنة للناس، مشحونين بشيء من الفخر والاعتزاز بما ذاقوه من لوعة وحرمان ومذلة وهوان؟.

روَّج البعض أن المحن تصنع النصر، فجعلوا منهجهم صناعة المحن للناس وخططوا للنصر من بوابة المحن، واستدرجوا الناس إلى الفوضى، لتختلط الأوراق وتتداخل الأمور، ويرتفع الصراخ، وكأن الصراخ يجلب الفرج، وكأن النواح يحقق الظفر!، فباؤوا بالهزائم والنكبات.

والمشكلة أن نرى أصحاب هذا النهج يفرحون عندما يغلي المرجل بالناس، ويفور التنور، وتهتز الأرض تحت أقدام الأطفال والنساء، ظنا منهم بأن النصر يأتي بعد مزيد من الخسف والنسف، لكن الهزائم لا تجلب إلا مزيدا منها، وثقافة النصر تنتج أمة لا تقبل بديلا عن النصر.

قد يجادل البعض بأن المحن هي درب الأنبياء والأولياء والحكماء.. الذين يدفعون ثمن الحق الذي يحملونه، ويدعون الناس إليه، فيقف الطغاة بوجههم خوفاً على عروشهم أو جزعاً على أصنامهم.. وهذا الجدل صحيح مئة بالمئة، لكن المشكلة تكمن في المحن التي تأتي ضريبة لسوء الإدارة والتخطيط وواقع العجز والكسل إلى أن نصل إلى دفع الثمن مضاعفاً.. فالصبر على صناعة النصر ألزم من الصبر على صناعة الهزائم.. ومن الناس من لديه همة عالية لمكابدة المحن مع أنه يحتاج إلى جزء من تلك الهمة لصناعة النصر وبلوغ المجد، لكنه فاقد لثقافة النصر أسير لثقافة المحن.       

الكاتب والباحث السياسي: عبدالناصرابوالمجد.

ليست هناك تعليقات