آخـــر ما حـــرر

الشعب السوري... بين المعارضة والنظام


 

في كل القضايا الحاسمة التي تبرز في التاريخ البشري نلاحظ أن الخطاب الإعلامي السياسي المرافق لقضية ما يحرص على تمجيد الشعب وإطلاق أوصاف موجودة فيه وأخرى غائبة عنه، حتى الطغاة يحرصون على الإطراء بشعوبهم بمناسبة أو بأخرى.

لكننا وجدنا تلك القاعدة في سوريا مكسورة سواء من طرف المعارضة أو من طرف النظام!.. فكلاهما يهاجم الشعب بصورة ضمنية أو صريحة.

فالنظام السوري- في سوريا- غير مرتاح قطعاً للشعب السوري لأنه بالأصل لا يمثله ولا يشبهه وليس على مقاسه ولا من طينته.. وكان يتربص به المكائد ولا يحرص على مصلحته، منذ تربعه على عرش السلطة.. فكيف وقد تمرد الشعب عليه وانتفض بوجهه مطالباً بحقوقه المشروعة؟. عندها لا يمكن أن نتصور أن يصفو مزاج النظام على شعبه المظلوم،.. لكن الذي يحاول فعله هو تشويه الصورة الحقيقية للشعب السوري ويصفه بالغوغائي المتخلف، وذلك على ألسنة شبيحته من فنانين وإعلاميين.

والمعارضة السياسية كذلك حرصت في معظمها على مهاجمة الشعب السوري، كلما سنحت لهم الفرصة، وبعد كل فشل، وكأن ثورة الشعب السوري أحرجتهم كثيراً، وأتعبتهم بارتفاع سقفها وشدة إصرارها على مبادئها.. في حين أن للمعارضة سقفاً آخر يشبه القاع إلى حد بعيد، حيث رأيناهم يبتهجون وهم يصافحون المحتلين، مع ظهور انحناءة خاشعة ذليلة أحياناً. في حالة لا تشبه وقفات التحدي التي وقفها الشعب السوري في ساحات الشرف والنضال.. وحين فشلت النخبة بمطاولة سقف الحرية والكرامة راحوا يتهمون الشعب بأنه لا يستحق الحرية والعيش بكرامة.

الموقف ذاته رأيناه عند معظم قادة الفصائل العسكرية، والحديث هنا تحديداً عن القادة الذين كانوا ينسحبون من الجبهات ونقاط الرباط، حاملين ما خف وزنه وغلا ثمنه، مخلفين وراءهم ما ارتفع وزنه من السلاح الثقيل غنيمة للميليشيات القاتلة، تاركين الشعب الصابر المحتسب لمصيره المجهول، فريسة للعتاة الظالمين.. الشعب الذي كان قبل ذلك وفياً لأبنائه المقاتلين، فحين ضغط النظام بكل قوته على الشعب ليدفعه للتمرد على الفصائل المقاتلة، كان الشعب صابراً محتسباً، ولم يخرج بمظاهرة واحدة تطالب بخروج المقاتلين، حيث كانوا يتمترسون.. لكن الفاجعة كانت أن كثيراً من الفصائل كانت تترك الشعب لقدره، وتتخذ قرار الانسحاب والرحيل بالباصات الخضر أو غيرها، مع أن العادة المعتادة أن الشعوب الضعيفة هي التي تبدأ بالهزيمة والاستسلام، لكن الشعب السوري لم يفعل ذلك، وفعلها الذين يرتجى منهم الصمود والاستبسال وتأمين الناس قبل أن يأمِّنوا أنفسهم، لكننا وجدنا عكس ذلك كان يحدث، فالشعب الذي لا يحمل السلاح بقي صامداً في حين أن قادة السلاح كانوا ينسحبون.      

في كل أدبيات الصراعات والقضايا تحرص النخبة على صيانة الحالة الشعبية واحترام كفاح الشعوب إلا في الثورة السورية، وجدنا النخبة لا تبرز أهمية الشعب السوري في نضاله الثوري وكفاحه التحرري، بل إن جزءاً كبيراً من النخبة السياسية والعسكرية والمعرفية على حد سواء تعودت أن تلقي بفشلها على الشعب، حتى سمعنا كلمات هي بحجم الجريمة قالها البعض عن الشعب السوري بأنه «شعب لا يستحق الحرية ولا يستأهل النصر».

وحين نعد الشعب السوري هو محور الحدث ومركز القضية فلدينا مبررات كثيرة على ذلك، أهمها:

أولاً- لأن الشعب هو الذي أطلق ثورة الكرامة، ذلك المشروع الوطني الذي يعده الأحرار أفضل منتج أنتجته سوريا، فلم يكن أحد يتصور أن بمقدور شعب أعزل مرتاح معيشياً أن يحطم جدار الرعب الثخين، الذي عملت على صناعته المنظومة الأمنية الأسدية بطريقة لا مثيل لها في العالم، حيث كانت «أمنيِّات النظام» تحصي على الناس أنفاسهم وتوظف الأخ مخبراً على أخيه وابن عمه، ومع ذلك فإن الماء تفجر من الصخر والنبات انبثق من الحجر.

ثانياً- كما تقدم الشعب السوري على النخبة بإطلاق شرارة الثورة فقد تقدم كذلك في امتطاء سلَّم الوعي على النخبة التي تلقت وعيها من الموروث الثقافي أو المعروض السوقي أو المنتجات الحزبية. فكان وعي النخبة مضطرباً عاجزاً عن حسم معظم مفردات الحدث السوري.. وأهم الأمثلة على ذلك «مفردة الأصدقاء والأعداء»، التي لم تحسم حتى هذه اللحظة، حيث إن قائمة الأعداء والأصدقاء مختلفة من لون نخبوي إلى لون آخر، تبعاً للمشارب الحزبية والمذاهب السياسية والمدارس المعرفية. لكن الشعب السوري حسم هذا الجدل مبكراً، لأنه قرأ هذه المفردة على أرض الواقع بعيداً عن الفلسفات والاستنتاجات المضللة فلا عدو له سوى من يقتله من «إيران وروسيا والنظام».

وهناك مفردة أخرى شديدة الأهمية وهي «تنظيم القاعدة»، ففي الوقت الذي لا يزال أمر القاعدة محل جدل في صفوف النخبة والمعارضة رغم انكشاف مكائدها وأضرارها، وجدنا الأمر محسوماً عند الشعب، الذي رفض رفضاً قاطعاً وجود القاعدة في البيت الثوري، ورفض إمكانية احتسابها على قواه الثورية.

ثالثاً- الشعب السوري هو محور القضية لأنه هو الذي دفع الثمن الأكبر في الحرب الدائرة منذ سنوات.. دفع الثمن مرتين: مرة لأنه يواجه نظاماً همجياً شريرا لا حدود لإجرامه.. ومرةً لأنه كان ضحية لأخطاء قادة السلاح المحسوبين على الثورة. فمن وجهة نظر النظام القاتل فإن النصر الحقيقي هو الانتصار على الشعب، بقتله وتهجيره وتشريده، ومن وجهة نظر المعارضة فإن الهزيمة الحقيقية هي هزيمة الفصائل المسلحة، مهما كانت خسارة الشعب السوري. ففي الحالتين كان الشعب في الوضع الأسوأ، فهو بالنسبة للنظام «هدف لنيرانه»، وبالنسبة للفصائل «دروع بشرية»، مما جعل فاتورة الدماء مهولة.

وحين نعتبر الشعب السوري هو محور القضية فإننا نرتب على أنفسنا التزامات أدبية تجاه هذا الشعب الكريم لا ينبغي تجاوزها وهي:

1.     على أحرار الثورة السورية أن يعلنوا افتخارهم بالشعب السوري، وتثمينهم لتضحياته، وإبراز خصائصه المميزة، فقد كان هذا الشعب شجاعاً في مواجهة آلة الإجرام الأسدية، وجسوراً في استمراره في الخيار الثوري، وصبوراً في تحمله لتبعات الحرب المدمرة، إضافة إلى كونه شعباً موهوباً نشيطاً طيب الخصال.

2.     مطالبة المجتمع الدولي بحماية الشعب وإغاثة الناس كأولوية من أولويات العمل السياسي والحقوقي، وعلى الأحرار أن يستغلوا هذه الثغرة التي تحتم على القوانين الدولية حماية المدنيين. لكننا وجدنا كثيراً من النخب التي كانت تطرق أبواب الدعم تبحث عن دعم لها لا لشعبها، وتقاسم الشعب على حصته من الدعم، تاركة له الحصة الأصغر.

3.     على الأحرار أن يعدُّوا الشعب هو المعيار الرئيس في «مقايسة الربح والخسارة» فالربح الحقيقي في العمل الثوري يتمثل بإمكانية صيانة دماء الناس وأعراضهم وممتلكاتهم، والخسارة الحقيقية مرتبطة بمدى عذابات الناس ومواجعهم.

4.     على الخطاب الثوري الذي ينتهجه الأحرار أن يكون موجهاً إلى الشعب السوري في المقام الأول، بلغة شفافة لا غموض فيها، فكل بيان أو تصريح أو موقف، يجب أن يراعي أن الشعب السوري هو المستمع الأول والمخاطب الأول، وقد وجدنا عكس ذلك يحدث فلا رجال السياسة ولا رجال العسكرة كانوا يوضحون للشعب السوري ما يحدث فكان الشعب يذهب إلى مصيره المجهول دون أن يعلم وجهته.

لا أتصور أن شعباً تلقى كميات من الظلم كما تلقاه الشعب السوري... فنظام الأسد كان حريصاً على تسويق الشعب السوري على أنه شعب متخلف همجي، وسخَّر إعلامه لتسويقه بأنه إرهابي ومخرب، و«الفصائل الإسلاموية» تهجمت على الشعب السوري واصفة إياه بالمتفلِّت من الالتزامات الدينية، والمتمرد على الأوامر الإلهية، وقادة السلاح كانوا يهاجمون الشعب بعد الهزائم، وبعض النخب الفكرية تحدثت بوقاحة واصفة الشعب بأنه لا يستحق الديمقراطية وليس جديراً بالحرية، لكن جماعة من «المتفيقهين» وجهوا للشعب السوري إساءة كبيرة، حين قدموا تفسيراً ظالماً للكارثة الإنسانية، التي أصابت الشعب السوري، معتبرين أنها جاءت بسبب الذنوب والمعاصي، وأن الله بحكمته يعاقب هذا الشعب على تقصيره، وما كل تلك المحن إلا لغسل الذنوب ومحو الآثام. ووفقاً لهذا التفسير الوقح علينا أن نستنتج أن الشعب السوري هو الأكثر ذنوباً وإسرافاً في المعاصي على كوكب الأرض لأن المحنة الواقعة عليه هي الأكبر.

الكاتب الصحفي والباحث السياسي: عبد الناصر الحسين.

ليست هناك تعليقات