آخـــر ما حـــرر

مفاهيم على طريق الثورة السورية

 

بعد أن حضرت الظروف الموضوعية والمبررات الحتمية لقيام الثورة السورية اندلعت ثورة الأحرار دون أن تأخذ إذناً من أحد أو إشارة من جهة خارجية، فقد تلقت الإشارة من الضمير الجمعي للشعب السوري الثائر، ومعظم السوريين كانت تعتلج في صدورهم براكين من الغضب المستعر لما يلاقونه من ظلم النظام وجوره.

ولدت الثورة السورية من رحم المعاناة المستمرة.. ولا يمكن للمولود أن يرتد إلى الوراء بعد الولادة.. وانطلقت كالسهم بقرار شعبي وطني لا رجعة فيه، تنفض عنها واقع العبودية والخضوع، فأصيب النظام بالصدمة والذهول، حيث لم يكن متوقعا أن يتمرد الشعب السوري على سلطانه، ويخدش كبرياءه، بل إنه راهن على ذلك، ولقد استشاط طاغية سورية وحلفاؤه غيظاً، عند اندلاع ثورة الكرامة، وكان يوماً أسود ذلك اليوم الذي هتف الشعب فيه بإسقاط النظام، بعد أن تعود على أن يرى الرؤوس تنحني إجلالاً له، فإذا بجيل من الشباب الحر ممن لم يدخلوا مصانع العبودية ينتفض على حكم المعاتيه ويهز أركان عرشهم.

أحدثت ثورة الكرامة السورية انقساماً عمودياً في المجتمع السوري بين أحرار ثائرين وعبيد خانعين، فانحاز الأحرار إلى خيار الثورة، بينما اصطف العبيد مع النظام القاتل، فلا يقدّر قيمة الحرية إلا السادة الأحرار الذين سكنت في قلوبهم معاني الرفض والإنكار.

الثورة ليست مسؤولة عن عدم انحياز البعض لخيار الكرامة فمن المحال أن تتخلى جوقة العبيد عن العيش في قعر حذاء الطاغية الفاجر، فهؤلاء يزداد حبهم للقاتل كلما ازدادت جريمته ، كما أنه من المحال أن ينحاز الأباة الأحرار إلى قطيع العبيد الذي يطوف حول الصنم مهما زادت سطوته، فللأحرار مكان آخر حيث المجد والعلياء.

لقد واجه نظام الأسد المظاهرات السلمية بوابل من النار دون تمييز، بقصد قتل أكبر عدد ممكن من المتظاهرين، لكن جيش النظام لم يكن مستعداً لمواجهة مثل تلك الظروف ولا مهيأ لإطلاق النار على الناس، قبل أن يقوم النظام بترويضه والاحتيال عليه، إضافة إلى الضغط الذي مارسه على أفراد الجيش بقمع المتظاهرين بالرصاص الحي تحت طائلة المحاسبة بالخيانة العظمى.

يعلم الشعب السوري الثائر- من واقع التجربة مع النظام القاتل- أن للحرية ثمناً لابد من دفعه، وقد أبدى جاهزية كاملة لدفع الثمن حتى لو كان منتهاه الموت، لأن الموت- وفقاً لرؤية الثوار- هو شهادة وكرامة، لكن النظام المجرم- وبرعاية من حلفائه- أصر أن يكون الموت هو أقل ثمن يمكن أن يدفعه الثائرون على سلطته.

مع اندلاع ثورة الكرامة السورية مارس الوريث القاصر هوايته المعتادة في التفنن بالتعذيب مستخدماً أعتى أدوات التنكيل بالمتظاهرين، فقد أراد أن يجعل من ثمن الحرية أكبر بكثير من قيمة الحرية ذاتها، ليتخلى الناس عن هذا المطلب الأشد خطورة عليه من وقع الصواعق.

علينا الإقرار بأنه  ليس كل ما يتلقاه الشعب السوري الجريح من فواجع وأهوال كان ثمناً للحرية التي طالب بها وثار لأجلها، فجزء كبير من الثمن- في الحقيقة- هو ضريبة لتخلف الآخرين وأخطائهم، من الذين يمسكون بزمام الأمور وتصدّروا المشهد الملحمي ثم لم يكونوا أهلاً له.

لقد دفع الشعب السوري من التضحيات ما هو أكبر من حجم أهدافه، وقدم من الدماء ما هو كفيل بإسقاط عروش كثيرة قائمة على البطش والجبروت، وأظهر من البطولات ما تعجز كل الأدبيات عن وصفه، لكنه بالمقابل لم يجد من النخب المعارضة من يحسن ترجمة أسباب النصر إلى نصر وتحرير.

صحيح أن ثمن الحرية كبير! لكنه يدفع مرة واحدة، ويدفعه جيل واحد، لكن ثمن العبودية أكبر بكثير يدفع كل يوم وعند كل طقس من طقوس المذلة والهوان، وتدفعه أجيال كثيرة على مر الزمان.

يجب الحرص على التقليل من الثمن الباهظ الذي يدفعه السوريون، فهناك حد من التكاليف لا يعوضه حتى النصر، كانتهاك الأعراض، وتقسيم الوطن، ولا بد من وضع حد لمن جعل الثورة ثروة، ومن جعلها فرصة للتمنصب على آلام الناس، ولمن يتسلل في الظلام إلى الأعداء ليبرم معهم صفقات الخيانة والغدر.

 يستمد الطغاة بقاءهم من سكوت الناس على ظلمهم، ويبنون أمجادهم من خضوع الناس لهم وخوفهم من بأسهم، كالعين التي تكره الضياء إذا طال مكثها في الظلام، حتى إذا طال تعايشهم مع الخسف والهوان صاروا يألفونه.

كلما طال أمد الطغاة في السلطة ازداد تجذّرّهم فيها، وصعب معه انقلاب الناس عليهم واقتلاعهم من عروشهم، وصار ثمن الحرية أكبر وكلفتها  باهظة، وربما تُلقى تبعاتها على عدد قليل من الأحرار المحتفظين بمخزون وافر من الكرامة والشهامة، ادّخروه ليوم تصير فيه الكرامة عملة نادرة، ولم يبذلوا عزتهم وكبرياءهم على عتبات أصنام السلطة.

يعمل الطاغية المستبد على خفض منسوب الكرامة في المجتمع بإهانة الناس وخسفهم ليوصلهم إلى حد فقدان الذات والهوية، والذوبان في الهيكل المعبود، حتى إذا أثقل الظالم من ظلمه على الناس واختبر تحملهم وجد أن «قدرتهم على تحمل الهوان هي أكبر بكثير من قدرتهم على تحمل الثوران».

الشعب السوري لم يندم على ثورته لكنه «ندم على تأخر اندلاع الثورة»، مما أتاح للطغاة أن يتجذّروا في سورية أكثر، فكلما طال أمد الطغيان كلما تمكن المستبد من خفض منسوب العزة والكرامة في المجتمع، فعندما تتأخر الثورات فسوف تقع أعباء تكاليفها على من تبقى من الأحرار، وعلى أية حال فقد مضى أهل الثورة في خياراتهم رغم العوائق والمحن وإصرارهم يزداد يوما بعد يوم على تحقيق أهدافهم.

لم يتفاجأ الشعب السوري من إجرام النظام الأسدي ولا من ردة فعله الهمجية على المظاهرات السلمية، فللناس تجربة سابقة مع هؤلاء الطغاة البغاة، لكن النظام هو الذي تفاجأ من صمود الشعب السوري وشجاعته، فقد أثبت شعب سورية أن لديه طاقة خلاقة لا يوقفها تدفق اللهب ولا لفح البارود. 

 إن وعورة طريق الحق لا تعني العدول عنه، وإن نعومة دروب الباطل لا تغري الأحرار باتباعها، فأشواك المكرمات خير من زهور المهانات، وإن خيار الحق راحة للروح والضمير، أما خيار الباطل فهو راحة للهيكل الزائل.

إن ما وقع على الشعب السوري من طغيان النظام هو مبرر إضافي لمتابعة مشروع الثورة والتغيير، وليس مبرراً للتراجع والنكوص إلى العهد الغابر، العهد الذي يتذكره السوريون بمزيد من الاشمئزاز والإنكار، فليس قدر الشعب السوري أن يبقى محكوماً للأسد وأسرته، وكلما هلك منهم هالك خلفه وريث قاصر.

«إذا كان المضي في طريق الثورة شهادة فإن التراجع عنها انتحار»، ولقد قام شعب سورية بالثورة عندما أيقن أن النظام الأسدي  مستبد وفاسد، ولكن الثورة كشفت أنه عدو حاقد واحتلال خارجي، وغير أمين على مصالح البلاد ولا حريص على نهضتها وتطويرها بل إن البلاد والعباد أرخص عنده من أي شيء.

وبعد أن حل بسوريا وأهلها ما حل من تقتيل وتهجير وتدمير وإذلال يتوارد السؤال: ألم تكن سورية بحال أفضل قبل الثورة؟ ها هي البلد دمرت.. وها هو الشعب أصابه من الذل أكثر مما كان واقعاً عليه قبل الثورة.. وهذا صحيح لكن الذي قتل الشعب ودمر الوطن هو نفسه الذي قام الشعب ضده.. وهو يثبت بذلك أن ثورة الكرامة كانت ثورة الحق الأكيد وثورة اللحظة التاريخية.

وبعد أن أصاب سورية ما أصابها يتوارد للأذهان سؤال: ألم تكن سورية مثالاً  للاستقرار والأمان في المنطقة؟ ربما يكون هذا صحيحاً في حدود ما تراه عين الزائر الغريب الذي لا يعرف أن أمان سورية كان أمان العبيد المذعورين من رفع الصوت خارج النص المكتوب، أو تنقيل الخطوات بعيداً عن البرنامج المقرر.

لا لم يندم الثوار على ثورتهم، فحين يفتح الطبيب الجراح جوف المريض لاستئصال الزائدة ثم يتفاجأ بورم سرطاني فليس من الحكمة أن يغض الطرف عنه، وهذا ما حصل للشعب السوري الذي ثار ضد ظلم النظام ثم اكتشف أن النظام الأسدي قد تجاوز وصف الظلم الذي اعتاد العالم أن يعاينه أو يسمع عنه، ليرى ظلماً بلا حدود عنوانه «اقتل واسحق ودمّر حتى يفرغ صبر الشعب، وحين لا ينتهي صبر الشعب فاقتل الشعب كله» «وما لا يتحقق بالعنف فإنه يتحقق بمزيد من العنف» أما الظلم الذي لا يخطر على بال أحد فهو قائم على مبدأ «إذا كان الموت راحة فلنعذبهم حتى يصير الموت أمنية».

عبدالناصرابوالمجد  


ليست هناك تعليقات