آخـــر ما حـــرر

الغرور والقصور.. أزمة مرور


     
                                 
أمران إذا انتفخا وقعت كل أنواع الكوارث والمحن!. «الأنا والغير».. فتعظيم الإنسان لـ«أناه» يصنع الغرور وتعظيمه لـ«لغيره» يولد القصور.
وكلا الأمرين داء خطير لأنهما يحدثان خللاً في حجوم الذوات البشرية في المجتمع مما يضيق المساحات على الآخرين فلا يجدون لهم موقعاً يتموضعون فيه فقد حجزت كل الأماكن للمنتفخين المغترين بأنفسهم وللمنفوخين الذين انصهرت في كياناتهم ذوات متقزمة كثيرة.
فالمغرور يعمل جاهداً على التمدد طولاً وعرضاً ملتهماً ما حوله من «الأنوات» القابلة للهضم، يقتات على مديح الناس له وثنائهم عليه، حتى ليصاب أحياناً بعسر الهضم لكثرة ما يقدم له من قرابين الطاعة وطقوس التزلف والانمساح. باحثاً عن «أنوات أخرى» سمينة فمدح الصغار له لا يشبع نهمه بينما مدح الكبار وحده هو الذي يملأ جوفه.
♦ يحرص المغتر بنفسه أن يكون في المركز والآخرون ينصرفون إليه، طالبين النصح والتوجيه والرأي والمشورة، والأنظار مشدودة إليه رانية إلى نجمه المتألق، فهو مركز لكل فكرة، ومحور لكل مشروع، يربط الأشياء كلها بوجوده، فهو سر النجاح ومفتاح الفلاح، وبذهابه تفشل الخطط  وينهار العمل.
♦ كما يحرص المغرور أن يكون في المقدمة يحتل الصفوف الأولى، والناس كلهم خلفه ويضيق صدره بالصفوف الخلفية، ولسان حاله يقول: «أكون في صدارتكم أو لا أكون معكم». وحين يكون في المقدمة فإنه يتمترس بموقعه، ولا يدع فرجة لأحد أن يتقدم عليه حتى ولو أخفق ألف مرة فالفشل على يده أهون عليه من نجاح على يد غيره لأن ذلك يدمر أركان نفسه ويقتله.
♦ ويجتهد المغرور أن يكون في الأعلى والبقية تحته، يتقلد المناصب المرموقة بجدارة أو نصف جدارة أو بغير جدارة في معظم الأحيان، ويزيد من غروره حاجة الناس إليه بحكم موقعه، وتتغذى نفسه على تزلف الناس إليه وتملقهم له، وهذه الأجواء تمده بالراحة والاطمئنان على أن «ذاته المدللة» بخير وأمان.
بالمحصلة لا يجد المغرور نفسه إلا في المركز والناس حوله، وفي المقدمة والناس خلفه، وفي الأعلى والناس دونه. وحين تتضخم الأنا بهذه الصورة، لا يبقى في النفس اعتبار لأحد، ولا تقدير لأية قيمة، وكل شيء يبدو صغيراً ضئيلا.
في مقابل المغرور هناك نوع آخر من البشر وهو القاصر الذي يمثل للأول مادة أساسية لتضخمه. وهذا النوع متمرس على التزلف والتمسح والتملق والنفاق ولا يجد نفسه إلا في تلك المواقف ويخشى على نفسه من شيء واحد وهو أن يغضب ممدوحه من ثقل مدحه له وكثرة تقديسه له.
تعظيم الغير داء خطير يصيب القاصر موتور الكيان ومفرغ الوجدان، وهو مرض ناجم عن نقص في مركَّبات الكرامة وعوز لمادة المروءة والشهامة. وهذا النوع من الناس لديه فراغ فكري وخواء روحي، وإفلاس من كل معدَّات قوة الشخصية كالإرادة والحزم والتقرير. فهو ينزع إلى الامتلاء بأي شبح بشري مرموق، ولو كان جيفة معطوبة، «فالأجواف العفنة لا تملؤها إلا الجيف النتنة».
وهنا تختلف الأدوار لنكون أمام حالة مغايرة للحالة الأولى, بحيث يبدو هؤلاء العبيد هم الزاحفين إلى الأعتاب لنيل الرضى والمثوبة من السيد المتضخم والهيكل المتورم, يتسابقون لتقديم واجبات الطاعة وطقوس الولاء، ليبدو القاصر هنا فاقداً للقرار والإرادة والثقة والفضل والقيمة, منهزماً محتاجاً مضطراً متفككاً مرتبكاً جزوعاً, يسارع إلى طاعته وينافس في خدمته ويتهم نفسه بالتقصير والخطأ.
♦ العبد القاصر محتاج دوماً إلى سيده في اتخاذ القرارات كقرار التغيير والتحول والإصلاح والصيرورة, كما يبدو القاصر عاجزا عن القيام بأي مبادرة لأنه مسلوب الإرادة, فلا يستطيع أن يختار إلا بإشارة من سيده, وليس بوسعه اختيار لحظة البدء والانتهاء, لأنه ملتزم بحرفية النص، من غير تصرف ولا اجتهاد، ومن الصعب أن تقنع العبد بأن سيده يخطئ أو يظلم, فما يفعله السيد هو الحق الخالص والصواب المطلق، ولو كان إجراماً وغدراً وطغياناً.
♦ العبد القاصر منقوص دوماً لا يثق بنفسه لأن ثقته ذهبت كلها إلى الوثن المعطر بالبخور، ولا يشعر بكيانه، لأنه ذائب في برنامج سيده, وهو في حالة انعدام للوزن، لا تتيح له التماسك أمام كل متغير أو مواجهة، وقد يتخلى عن يقينياته مقابل أوهام سيده. وإن الذات المتعبدة هي ذات ذائبة في مقام السيادة، لذلك تراه لا يتخلى عن سيده لأنه بذلك يشعر بالضياع, ويستطيع العبد أن يمرر لسيده أكبر الخطايا، لأنه في الأصل لا يراها كذلك, ويشعر بعظمة كل ما يصدر عن سيده من مواقف وآراء، حتى صمته وسكونه ينطويان- في نظره- على منتهى الحكمة وأمور ضخمة لا يستوعبها الآخرون.
♦ لا يشعر القاصر الموتور بقيمته ولا يجد شخصيته إلا بمزيد من الذوبان والتلاشي, ويكتفي من سيده بنيل شيء من الرضا أو اللطف حتى يشعر أنه في نعيم مقيم. فهو عبد باع نفسه بثمن بخس لم يحدده هو إنما تحدده بورصة العبيد, ولا يتلمس ذاته إلا  بتنفيذ المطلوب منه, ولو كان أمراً مذلاً ومهيناً, وعندما يقع في كنف سيده لا يعود يرى في الوجود أعظم منه ولا أجل من قدره.
♦ لا يرى العبد الرخيص لنفسه فضلاً ولا حسنة ولا معروفاً، فالفضل كله هناك عند وليِّ نعمته، فيرى إكرام سيده كبيراً، ورضاه نعيماً، وقسوته نعمةً، وتعذيبه عذوبةً، وخطأه صواباً، وكلامه حكمةً، وموقفه منهجاً. ويرى فضله عظيماً آسراً لكيانه.
♦ يستطيب القاصر المعدوم عذاب سيده، ويستعذب عقابه, ويرى في ظلم سيده عدالة مطلقة، ونزاهة مكتملة, يلوم النفس حين يقع عليه  ظلم سيده, وتزداد عبوديته مع ازدياد عنف سيده، بل ويشفق على سيده أن يصيبه مكروه أو خسران حتى وهو يظلم.
هذان المرضان متكاملان فوجود أحدهما يؤدي إلى وجود الآخر، وأسوأ المجتمعات تلك التي تتعاظم فيها الفوارق الحجومية بحيث نرى فيها «عمالقة وأقزاماً» فالأول تصعب رؤيته لضخامته، والثاني تصعب رؤيته لضآلته. والمجتمع المأزوم هو الذي ينقسم إلى مغرور يبحث عن عبيد أو قاصر يبحث عن صنم.
أبو المجد ناصر في : 14-4-2014.................

  



ليست هناك تعليقات