الثورة السورية مشروع وطن وإنسان
في الوقت التي تفكر فيه شعوب العالم بمزيد من الرخاء والرفاهية كان الشعب
السوري منهمكاً بالهاجس الأمني، وباللهاث وراء لقمة العيش، مع أن الشعب السوري يستحق
الحرية والكرامة كغيره من الشعوب. حيث كانت سورية سبّاقة إلى الديمقراطية والدسترة
في المنطقة قبل أن تستولي عليها الديكتاتورية الطائفية.
أحدثت ثورة الكرامة السورية انقساماً عمودياً في المجتمع السوري. بين
أحرار ثائرين وعبيد خانعين، فانحاز الأحرار إلى خيار الثورة، بينما اصطف العبيد مع
النظام القاتل، فلا يقدّر قيمة الحرية إلا السادة الأحرار، الذين سكنت في قلوبهم
معاني الرفض والإنكار.
من المحال أن تتخلى جوقة العبيد عن العيش على أعتاب الطاغية الفاجر،
فهؤلاء يزداد حبهم للقاتل كلما ازدادت جريمته، كما أنه من المحال أن ينحاز الأباة
الأحرار إلى قطيع العبيد مهما زادت سطوته، فللأحرار مكان آخر حيث المجد والمكرمات.
لكن علينا الإقرار بأنه ليس
كل ما يتلقاه الشعب السوري الجريح من فواجع وأهوال هو ثمناً للحرية التي طالب بها
وثار لأجلها. فالجزء الأكبر هو ضريبة لتخلف الآخرين وأخطائهم. من الذين يمسكون
بزمام الأمور ويتصدّرون المشهد الملحمي ثم لم يكونوا أهلاً له.
لقد دفع الشعب السوري من التضحيات ما هو أكبر بكثير من حجم أهدافه..
وقدم من الدماء ما هو كفيل بإسقاط عروش كثيرة قائمة على البطش والجبروت.. وأظهر من
البطولات ما تعجز كل الأدبيات عن وصفه.. لكنه بالمقابل لم يجد من النخب المعارضة
من يحسن ترجمة أسباب النصر إلى نصر وتحرير.
صحيح أن ثمن الحرية كبير! لكنه يدفع مرة واحدة، ويدفعه جيل واحد. لكن
ثمن العبودية يدفع كل يوم، وعند كل طقس من طقوس المذلة والهوان. وتدفعه أجيال
كثيرة على مر الزمان.
يستمد الطغاة قوَّتهم وبقاءهم من سكوت الناس على ظلمهم، ويبنون
أمجادهم من خضوع الناس لهم، وخوفهم من بأسهم، حتى إذا طال تعايشهم مع الخسف
والهوان صاروا يألفونه ويعشقونه، فالعين تكره الضياء إذا طال مكثها في الظلام.
وكلما طال أمد الطغاة في السلطة ازداد تجذّرهم فيها، وصعب معه انقلاب
الناس عليهم، واقتلاعهم من عروشهم، وصار ثمن الحرية أكبر وكلفتها باهظة، وربما تلقى تبعاتها على عدد قليل من
الأحرار المحتفظين بمخزون من الكرامة والشهامة، ادّخروه ليوم تصير فيه الكرامة
عملة نادرة، ولم يبذلوا عزتهم وكبرياءهم على عتبات أصنام السلطة.
يعمل الطاغية المستبد على خفض منسوب الكرامة في المجتمع، ليوصل الناس
إلى حد فقدان الذات، والذوبان في الهيكل المعبود، حتى إذا أثقل الظالم من ظلمه على
الناس واختبر تحملهم، وجد أن قدرتهم على تحمل الهوان هي أكبر بكثير من قدرتهم على
تحمل الثوران.
يجب علينا- كسوريين- الحرص على التقليل من الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب
السوري، فهناك حد من التكاليف لا يعوضه حتى النصر، كانتهاك الأعراض، ولا بد من وضع
حد لمن جعل الثورة ثروة، ومن جعلها فرصة للتمنصب على آلام الناس، ولمن يتسلل في
الظلام إلى الأعداء ليبرم معهم صفقات الخيانة والغدر.
إن الفرص لا تأتي كثيراً.. ولقد أتاحت ثورة الكرامة السورية للناس
فرصة تاريخية لا تعوّض، وليست كل الأجيال مؤهلة للثورة، فليعمل جميع الأحرار
بالطاقة القصوى لتحقيق أهدافهم وفي حالة من التعبئة العامة، فما بعد هذه الثورة
إلا عز مبين أو ذل مقيم، لأن الطاغية سيحتاط لمقبلات التجارب.
إن وعورة طريق الحق لا تعني العدول عنه، وإن نعومة دروب الباطل لا
تغري الأحرار باتباعها، فأشواك المكرمات خير من زهور المهانات، ولئن كان خيار
الباطل راحة للهيكل الفاني، فإن خيار الحق راحة للروح والضمير.
الشعب السوري لم يندم على ثورته لكنه ندم على تأخر اندلاع الثورة، مما
أتاح للطغاة أن يتجذّروا في سورية أكثر، فكلما طال أمد الطغيان كلما تمكن المستبد
من خفض منسوب العزة والكرامة في المجتمع، فعندما تتأخر الثورات فسوف تقع أعباء
تكاليفها على من تبقى من الأحرار، وعلى أية حال فقد مضى أهل الثورة في خياراتهم
رغم العوائق والمحن، وإصرارهم يزداد يوما بعد يوم على تحقيق أهدافهم.
إن ما وقع على الشعب السوري من طغيان النظام هو مبرر إضافي لمتابعة
مشروع الثورة والتغيير، لا للتراجع والنكوص إلى العهد الغابر، فليس قدر الشعب
السوري أن يبقى محكوماً للأسد وأسرته، وكلما هلك منهم هالك خلفه وريث قاصر.
إذا كان المضي في طريق الثورة شهادة فالتراجع عنها هو مهانة وانتحار..
ولقد قام شعب سورية بالثورة عندما أيقن أن النظام الأسدي مستبد وفاسد، لكن الثورة
كشفت أنه عدو حاقد واحتلال خارجي، وغير أمين على مصالح البلاد ولا حريص على نهضتها
وتطويرها، بل إن البلاد والعباد أرخص عنده من أي شيء.
تعتبر لحظة انطلاقة الثورة السورية ميلاداً جديداً للشعب السوري الذي
قدم نفسه للعالم بحلّة جديدة مختلفة عن النسخة التي أرادها نظام الخيبة والعار أن
تكون.
لقد كان يوم انطلاق الثورة السورية يوماً مجيداً بامتياز.. مارس الشعب
السوري فيه هوايته بحب المعالي والإباء، راسماً أجمل لوحات التلاحم الجماهيري الذي
أحرق قلب الطاغية غيظاً وكمداً.
حمل يوم اندلاع الثورة
السورية معنى آخر يختلف عن كل المعاني التي كانت سائدة من قبل، فقد تزينت أجواء
سورية بصرخات الحرية والكرامة وزغاريد الأمل بمستقبل مشرق لا مكان فيه لأشباه
البشر، مما أثار لطاغية العصر قلقلاً شديداً جعله يفعل كل شرّ لإخماد ذلك المحفل
الوطني الكبير.
لقد باحت سورية- في يوم عرسها الثوري- بكل أسرار المودة لأبنائها
الثائرين، لأنهم ثاروا ليخلصوها من قراصنة العصر وزنادقة التاريخ.
لقد أخرج الشعب السوري مخبوءاته الدفينة.. وكنوزه الثمينة.. من ثنايا
أضلعه.. يوم ثار على شذاذ الزمان، فاكتشف العالم أن في سورية مناجم من الذهب
العتيق، وآباراً من الطاقة لا تنضب.
معلوم للجميع أن الثورة السورية لم يحركها نخب ثقافية ولا أحزاب
سياسية، وللتاريخ نقول: إن الشعب السوري كان متقدماً على النخب في صناعة الثورة
وفي تثبيت كل النقاط المشرقة في طريق الحرية. بينما جاءت الأخطاء القاتلة من النخب
التي تغرف من التاريخ أومن الجرائد البائسة معزولة عن الواقع.
الكاتب والباحث السياسي: عبد الناصر محمد.
ليست هناك تعليقات