الوعي الصحيح يحسم المعارك
لن أدخل في أي تعريف فلسفي للوعي حتى لا يضيع المفهوم الحقيقي لهذه القضية.. فكثيراً ما ضيَّعت الفلسفة المفاهيم فبدلاً من توضيحها وتحديدها يحدث العكس فيلتبس المفهوم بغيره وتتداخل أجزاؤه وينفتح على العموميات حتى نظن أن المتحدث يتكلم عن كل شيء، لكن المستمع لا يحظى بشيء.
فالوعي ببساطة هو إبقاء البصر منفتحاً على ما
حوله، مع الاهتمام بما هو فاعل ومؤثر، بهدف تجنب الأضرار والأخذ بالمصلحة.. وعليه
فإن إبقاء آليات الرصد والمتابعة في حالة عمل دائم هو الضامن الحقيقي لكسب أي
معركة، فباليقظة وحدها يمكن التعامل مع المفاجِئات وتجنب الاستهدافات والاستدراج
إلى الأفخاخ. وباليقظة وحدها يمكن اقتناص الفرص وتصيد المكاسب واستغلال الظروف.
وكلما تعقدت أجزاء الواقع ازدادت الحاجة إلى
الوعي فالواقع المزدحم يعيق الحركة ويحرف المسار ويؤدي إلى التصادم مما يستدعي ضبط
الوقت ومعايرة الاتجاه وحساب النتائج.
مظاهر الوعي
إذا اختزلنا الوعي بكلمة واحدة هي «رعاية
المصلحة» سيصبح للوعي مظاهر تدل عليه ومقاييس تقيس مقداره ونوعيته.. وهي كما يلي:
1.
العناية بالمركز: فكل عملية لا تبدأ بالمركز
فهي فاشلة بالضرورة، وهي جهد ضائع وإمكانات مهدورة، فتدعيم المركز هو الخطوة
الأولى في الوعي.. فمن اعتمد على إمكانات الآخر ولم يعزز إمكاناته خذلته نجدة
الغريب، ووجد نفسه مفلساً ذاتياً.. ومن التفت إلى المخاطر البعيدة متجاهلاً
المخاطر الواقعة داخل المركز انفجرت في وجهه.. وإن أي تخلخل في المركز يصعب تعويضه
أثناء المسير.
2.
انتهاز الفرص: من أهم أهداف عملية الوعي
اقتناص الفرص التي تحضر، أثناء المسير، والفرص لا تأتي دوماً فلها مواسمها ولها
كذلك مفاجآتها.. وحين تمضي دون استغلال يصعب تداركها، ومن المهم أن ندرك أن الفرص
يزداد تواردها بازدياد الاجتهاد والبذل، فهي ليست خاضعة دوماً للمصادفة.. «فكثير
العمل كثير الفرص» كما علينا إدراك أن هناك جهات كثيرة تتصيد الفرص، فإذا فاتتنا
الفرص المفيدة فالآخر متأهب لأخذها، مما يضاعف الخسارة مرتين.. وليس لأحد أن «يندب
حظه» ويدعي بأنه لا تأتيه الفرص، فالمجتمعات البشرية مركبة على التناقضات، التي
تفرز فرصاً للضعفاء كما للأقوياء. وحين يتأخر حضور الفرص يجب صناعتها.
3.
الاستفادة من تجارب الآخرين، وأخذ العبر منها،
سواء كانت تجارب ناجحة لتقليدها، أو فاشلة لتجنبها.. ولا شك أن قوتنا الحقيقية
تكمن في تجاربنا الذاتية المدروسة بعناية والمخطط لها بدقة، لكن تجارب الآخرين
تختصر علينا كثيراً من وعكاء الطريق. وليس من الوعي أن نخوض كل التجارب من
بداياتها بقوانا الذاتية، ونخوض كل الدروس، وحولنا من خاض مسيرة مشابهة، وفي ظروف
مماثلة. وليس من الواقعية أن نصنع كل شيء ونبدع في كل شيء، فلا بد من الاتكاء على
منتجات الآخرين، وإبداعاتهم، ثم التميز ببصمتنا الخاصة.
4.
تحقيق المكاسب
بأقل الأثمان: صحيح أن المنافع والمصالح لا تتحقق بالمجان، لكن بعض الظروف تتيح
لنا تسوُّمَ بعض المنافع بأقل التكاليف، وربما بأقل الشروط أو بلا شروط!. يحدث هذا
أحيانا عندما نشكل مصلحة لجهة ما، والتناقضات البشرية تفرز الكثير من هذا، والواعي
هو الذي لا يفوِّت العروض السخية، والحكيم هو الذي يتخيَّر أنفعها وأجداها له.
وليس من الحكمة دفع الأثمان الباهظة لتحصيل مكاسب زهيدة.
5.
التكتم
والتعتيم وهو التكتيك الذي لا يضعك هدفاً للخصمـ فكما أن الوعي يقتضي منا رصد حركة
الخصم ورصد الحاضنة الواقعية للأحداث فإن الآخر أيضاً فاتح نواظره على وسعها ومشغل
نواظيره على مدار الوقت، ويلزم التخفي عنه بل يجب تضليله لتفويت الفرصة عليه.
6.
معرفة مواطن
المصلحة والاستفادة منها، ويمكن اعتبار الوعي هو «عملية إدارة المصلحة» والمقصود
بالمصلحة دوماً مصلحة الفريق والجماعة لا مصلحة الفرد، وهنا تبدو العملية صعبة إلى
حد ما، لأن الإنسان معتاد بالفطرة على استشعار
مصلحته وإدراكها لكنه يحتاج إلى كثير من التوضيح ليتفهم مصلحة الجماعة، وخاصة أنه
لا يشعر بعائداتها عليه شخصياً إلا لاحقاً.. وأحياناً تصطدم المصلحة بالقيم
والمبادئ ويصعب التوفيق بينهما، وهو الأمر الذي يحتاج مزيداً من الوعي العميق، فقد
نتخلى عن تحصيل مصلحة ما مداراة لقيمة ما، فنفقد القيمة ونفقد المصلحة معاً.. كما
قد تتصادم مصالحنا في مكان ما مع مصالح صديق لنا في مكان آخر، وهنا تخضع الأمور
للتقييمات الجادة بعيداً عن العواطف السابقة لاتخاذ القرار.
7.
البحث عن
الأمور المفتاحية والتعامل معها: فعندما تتعقد الأمور وتتداخل أجزاؤها يجب البحث
عن «الشيفرة» التي انعقدت عليها الأمور، فإذا فككنا الشيفرة ستتهاوى بقية العقد
كأحجار «الدومينو». وفي الأوساط الاجتماعية هناك ما يسمى «الشخص المفتاحي» وقد
يكون أشخاصاً مفتاحيين، فبدلاً من بذل الجهد على مجموعة كبيرة من الناس يمكن التركيز
على بضعة أشخاص لهم تأثير كبير لسبب أو لآخر. كما أن هناك «الحل المفتاحي» ويسمى
أحياناً «وجدتها».. وهو الحل الذي يحتاج إلى كثير من الصفاء الفكري والنقاء الروحي
والتجرد عن العوالق والخلفيات، عندها تبدو الأمور أكثر وضوحاً وتألقاً، وفي حالة
الصراع مع عدو واع ويقظ سنجد أن العدو يدأب على تغييب الحلول المفتاحية عن ذهنيتنا،
بتوهيمنا وتضليلنا بأخبار مزيفة، وأفكار مفبركة، وتوهيمات مضللة.
8.
إدارة «الوقت
والموارد والاتجاه» وهذه الأمور هي «رأسمال» العمل الذي لا يصح التفريط به لأنها «ملكية
خاصة» لا تتأتى من دعم خارجي ولا تشترى في الأسواق. وفي حسابات الوقت يمكن إصدار
حكمين مختلفين على عملين تم إنجازهما بنتائج متماثلة بأن هذا ناجح والآخر فاشل،
لأن الأول أنجز بوقته والثاني أنجز بوقت أكبر مما يستحقه. فمن تمام الوعي التعاطي
مع الوقت كـ«عملة صعبة» يصعب تعويضها عند فواتها. وكذلك الموارد والإمكانات تحتاج
إلى إدارة واعية حكيمة لتوظيفها في أفضل استثمار ممكن وذلك من خلال أمرين اثنين:
الأول هو وضع «الإمكانة» في مكانها المناسب.. الثاني هو جعل أدائها بالطاقة
القصوى.. أما الاتجاه فهو الأهم من كل ذلك، لأن أي جهد في غير اتجاهه هو تفريط
بالوقت والطاقة، بل قد يذهب لصالح الخصم فتصيبنا «نيران صديقة».
9.
معرفة مراكز القوى
الفاعلة والمؤثرة والتعامل معها كأولوية وهذا ما ينسجم مع مبدأ «صيانة الوقت
والموارد والاتجاه»، فمراكز القوى الحقيقية هي التي عادة ما تحسم الأمور، والمراكز
الأخرى عادة ما تكون متأثرة بالأولى، فالتعاطي مع القوى المؤثرة يختصر الجهد ويقربنا
من الأهداف ونتائجه محققة.
10. إدارة الأزمات والخروج من المآزق فمن المعروف أن أي جهة تمر بأزمة تصاب
باختلال في التوازن وفقدان للطاقة مما يجعل المتابعة أصعب بكثير من الحالات
الاعتيادية، وهنا يظهر الوعي بأجلى صوره. الوعي الذي يحتاجه صاحبه للمنازلة على
حافة الهاوية، وفي الوقت الضاغط. ومما يفاقم الأمور استغلال الخصم لهذه الحالة ثم
الانقضاض بزخم أكبر. كما يظهر الوعي في البراعة في تأمين الانسحاب من مأزق نجد
أنفسنا عالقين فيه، حيث تبدو معظم الطرق مقفلة، إلا إذا رصدت عين الواعي ثغرة ما
تصلح للخلاص.
إن كل مظهر من
مظاهر الوعي السابقة تقع بين حدين: حد الأمان وحد الزيادة!. فإذا حققنا حد الأمان
وأضفنا إليه حد الزيادة فالحالة تصبح مثالية جداً:
1.
فالحفاظ على
المركز أمر حسن.. لكن إعطاب الخصم في مركزه أحسن.
2.
وانتهاز الفرص
أمر حسن.. لكن صناعة الفرص أحسن.
3.
والاستفادة من
تجارب الآخرين أمر حسن.. لكن الانتفاع بتجاربنا أحسن.
4.
وتحقيق
المكاسب بأقل الأثمان أمر حسن وتكبيد الخصم أثماناً باهظة أحسن.
5.
والانغلاق على
الخصم حسن.. لكن جعل الخصم منكشفاً علينا أحسن.
6.
وتحصيلنا
لمصالحنا حسن.. وحرمان الخصم من مصالحه أحسن.
7.
والتعامل مع
الأمور المفتاحية حسن.. وإعطاب مفاتيح الخصم أحسن.
8.
وادارة «الوقت
والموارد والاتجاه» باحتراف أمر حسن.. والأحسن من ذلك أخذ المبادرة لنتحكم بطاقات
الخصم.
9.
والتعاطي مع مراكز
القوى الفاعلة والمؤثرة أمر حسن.. لكن قطع الطريق على الخصم للوصول إليها أحسن.
10. وإدارة الأزمات بثبات واقتدار أمر حسن.. لكن تجنب
الأزمات أحسن.
وعند الحديث
عن الوعي كضرورة لخوض المعتركات لا بد من التأكيد على أهميته أكثر في المعارك الوجودية
والمصيرية. فلا يكفي إحراز بعض النقاط على الخصم لأن العبرة بالنقاط القاضية.. ومن
هنا يظهر أن الوعي لا يتناصف ولا يتثالث ولا يترابع، فنصف الوعي لا يكفي لأنه يقطع
صاحبه في اللحظات الحرجة.
إن عملية
الوعي بالغة الدقة فقد يفترق واعيان في التصنيف بسبب تفاصيل دقيقة!.. كتقديم بند
وتأخير آخر، مما يطرح تعريفاً آخر للوعي مفاده: أن الوعي الرشيد هو «ترتيب
الأولويات» وهنا سنكتشف أن الخطط غير الرتيبة في الأولويات ستكون ضارة بينما لو
أعيد طرحها بالمضامين نفسها وبترتيب جديد قد تنقلب إلى خطط مجدية.
كل المعارك يمكن حسمها من أول الطريق إذا حضر
الوعي منذ البداية.. فالوعي المتأخر حسرة وندامة، وفي أحسن حالاته قد يلزم للتوثيق
وللتأريخ.. والوعي المبكر يجعلنا نبصر الواقع وكأنه على باطن الكف، نبصر ما هو
مقبل ومدبر.. ونرى ما يكبر ويصغر.. وما هو في الحساب أو خارج الحساب.
الوعي الصحيح يلزمنا بالاعتقاد أن جميع
الخصوم وغير الخصوم مفتحة أبصارهم، متيقظة حواسهم، متجهزون لاقتناص فرصهم
وأهدافهم.. فليس جميلاً أن نتكلم وغيرنا يفعل.. وأن نحلم وغيرنا
يعمل.. وأن نغيب عن مصالحنا حين يحضر الآخرون.
عبدالناصرالحسين.
التشاغل عن الهدف
بينما يبحث عن شيء ضائع فيعكر الماء والاجواء
فتزداد ضيعته
ليست هناك تعليقات