آخـــر ما حـــرر

وطني الذي يؤلمني



هي همسات أردت أن أهمسها في أذن الوطن الحبيب، الوطن الصديق والأخ والأم والأب، همسات مصحوبة بزفرات ملتهبة كاللهيب الذي يحرق أجزاء الوطن، همسات ممزوجة بالحرقة والألم الذي يشبه ما عبّرت عنه أنّات اليتامى وآهات الثكالى.

لم أكن أتوقع أن تترك وحيداً- يا وطني- بين أنياب الوحوش، تتلوى في ثنايا المحرقة العاتية، لكنهم تخلوا عنك وتركوك لصبرك العنيد، وركنوك لشموخك الراسخ، وكأن العالم انشغل عن نجدتك بقياس كمِّيَّة الصبر لديك، مراهناً على انكسارك الذي تأخر كثيراً، ولا أظنه سيأتي.

لولا جمالك البديع وحسنك الأخّاذ لما تنازعتك أيادي الشر والعدوان، تنهش من لحوم أبنائك الزكية، ولما تكالبوا على خيراتك سلباً ونهباً، فقد رأوا فيك ما لم يروه في بلادهم، المحتاجة لألف عملية تجميل إذا أرادوا أن يُشبِهوك أو يقلِّدوك.

وطني الحبيب ظنّك أطفال الحارات دمية رخيصة، فراحوا يعبثون بك، ويقطّعون أوصالك، ويشدّون شعرك، أطفال الفكر لا يقدّرون قيمة الأشياء، ولا يميزون بين المزيف والأصيل، و«من لا يعرف الصقر سيشويه» ويأكله، ولو عرفوا قيمتك لكتبوا على أبوابك: «ممنوع اللمس».

أود أن أبشرك يا وطني بأن أبناءك الأوفياء وجندك الأبرار قد عقدوا العزم على حمايتك، وفك أسرك من قراصنة الشر ولصوص الغدر، مهما كلفهم ذلك من ثمن، فثمن حريتك مدفوع مقدماً، من دماء رخصت لأجلك، وأرواح هانت إكراماً لقدرك، دفعوه بصدق العهد والميثاق، وأقسموا أن يصنعوا من عيونهم حراساً لأبوابك العالية، ومن سواعدهم أسواراً لحدودك الرحبة المباركة.

وطني الحبيب إني لأشهد بأن الله كمَّلك وزيَّنك، أصالة وعراقة وضياءً، ففيك المعادن النفيسة، والطاقات المهولة، والكوادر الفذة، مزداناً بكل أنواع الموارد والخيرات، وأهمها مواردك البشرية الفريدة النظيفة. لكن قوماً حسبوك ناقصاً فانهمكوا في اقتراح البرامج المزرية لتكميلك وتجميلك حسب زعمهم، وهم لا يعلمون أن الخشية واقعة على حاضرك اليوم، وقد أحاطت بك قوى الظلام من كل مكان، نعم لقد ظن المراهقون أن الوطن ينقصه كثير من السواد ومن قطع الظلام ومن الجفاف والنشاف والخشونة والتصحُّر، فجلبوا إليك بضاعتهم المشؤومة ليطفئوا بها نورك الوقاد، ويحجبوا ضياءك الأخَّاذ.

وطني الحبيب لقد فتحت أبوابك للقاصي والداني، واستقبلت الجميع بقطائف الياسمين ولفائف القرنفل والزيزفون، وفسَّحت لنازليك مكاناً واسعاً رحيباً، محسناً وفادتهم مكرماً إقامتهم، لأنك-باختصار-شهم كريم. واليوم أغلقت في وجهك أبواب اللئام، ورصدت بحراس من الشياطين، يرجمونك بالنار وشظايا الحقد الدفين، وكانت أسوأ الضربات تأتيك ممن تناولوا على موائدك أطيب القصعات وأشهاها.

لا تحزن يا وطني الحبيب أن أصبحتَ مادة للحكايات والروايات، لا تجزع أيها الوطن الغالي لأنك صرت مصدراً لأكثر الأخبار غرابة وجذباً للباحثين، وجعلوا منك ذلك الطفل الذي أفلتوا عليه وحشاً كاسراً في مسرح ملحمي من أساطير قدامى الإغريق، وراحوا يتسلَّون بالنظر إليك، وأنت تهرب من زاوية إلى أخرى أمام الوحش الجائع المجوَّع.

لم أكن أتوقع أن ينخر التطرف كيانك-يا وطني-الحبيب، لكنهم خدعوك عندما أوهموك أن «الجنة تحت أقدام المتطرفين»، وأن النصر في عباءة المتزمتين، فصدَّقتهم يا وطني الحبيب عن حسن نية وطيب قلب، لأنك تريد الخلاص من المذبحة النكراء والملحمة الحمراء.

ستعود سالماً يا وطني ويندمون، ستعود رابحاً يا وطني ويخسرون، ستعود قوياً ويضعفون، لأنك مظلوم وهم ظالمون، والله لا يحب الظالمين. الله يحبك يا وطني لأنك مؤمن وأمين، لأنك حر شريف رزين.

ويحبك الأحرار كذلك لأنك قطعة من وجدانهم، والجزء الأهم من ضمائرهم، وهمّك ممزوج بنبض قلوبهم، وحين يكرهك العبيد المناكيد فلأنك لا تصلح مزرعة لهم، تباع وتشترى فيها هامات الرجال، كأنها رؤوس البهائم تنقاد إلى الذبح وهي تهلل لسيدها.

الكاتب عبدالناصرابوالمجد.

 

ليست هناك تعليقات