هل التطرف في سوريا ظاهرة أصيلة أم دخيلة؟.
من ينظر إلى الشعب السوري من الداخل ويخالطه عن قرب فلن يجد صعوبة في استنتاج المعدن الأصيل لهذا الشعب العريق المتحضر، ولا يمكن أن يصفه- بأي حال- بالتطرف والعدوانية، فهو شعب لطيف وديع يحب الحياة الكريمة ويجنح إلى الاعتدال والتوسط في فكره ومسلكه.
سوف تختلف
النظرة إلى السوريين لمن ينظر إلى المشهد من بعيد أو لمن كانت لديه عدوانية ضد
الشعب السوري. فالذي يراقب المشهد من بعيد (والحديث هنا عن مرحلة الثورة) فسوف
يشاهد كثيراً من مظاهر التطرف متمثلة بالتشدد والتصلب والتحجر. وهذا أمر طبيعي
(أقصد المشاهدة)، فقد حرص «صنَّاع التطرف» في سوريا على إرسال الرسائل المجنونة
إلى العالم الخارجي لتشويه صورة السوريين الثائرين والإساءة للشعب السوري وخصائصه
وجمالياته.
فالتطرف- في
سوريا- ظاهرة تم تصنيعها عن سابق إصرار وتخطيط، وافتتحت لأجلها مدارس ومعاهد،
ودورات تدريبية ومناهج، وكان للسجون دور كبير في تفريخ المتطرفين من خلال عملية
مخابراتية يتقنها النظام الأسدي الذي لا يجيد أصلاً سوى إنتاج المنتجات القذرة
لأنه أبعد ما يكون عن النهضة والتحضر، ولأنه ماكر غادر يجيد الكيد ويبرع في
التدبير.
حتى لا يظن
البعض أن الصورة بيضاء ناصعة في كل أجزائها لا بد من الاعتراف بأن جزءاً معتبراً
من التطرف كان ذاتياً اكتسبه البعض بمحض إرادته، وتبعاً لنوعية مشاربه، لكن جزءاً
كبيراً تقمص دور المتطرفين حين وجد رواجاً لتلك السوق المشؤومة، فانشحنت عواطفه
بالمعروض في السوق وراح يردد ما خطط له المخططون.
ما دام التطرف
في حدود التقليد «الموضوي» فأمره سهل وعلاجه سهل، وسرعان ما يزول بزوال السبب
الباعث له، لكنه سيصبح داءاً عضالاً فيما لو تحول إلى ثقافة، وهذا ما حرص الخصم
المقيت على تكريسه في المجتمع السوري الثائر، وهذا ما يجب على النخبة المتنورة
مقاومته كأولوية لا يمكن القفز عليها، لأن «ثقافة التطرف» لا يمكن أن تنتج دولة
ولا نهضة ولا حياة.
والحقيقة التي
لا مفر منها هي أن تطرف الخطاب السياسي للثورة السورية أساء إليها إساءة بالغة،
ولقد ظهر التطرف في شكل دعوات محمومة لإقامة «الخلافة الإسلامية» ومحاربة الغرب «الصليبي»
والمطالبة بتحرير «القدس» وربما دعم حركات التحرر العالمية، وكل ذلك بحماس غير
مبرر، وربما كان متصنَّعا مرائيا مزايداً، وانتشرت دعوات لقتل المخالفين في الرأي
والمخالفين في الموقف، والقتل لمجرد الانتماء لطائفة أو حزب، أو قتل الأطفال
الأبرياء من أبناء طائفة معيَّنة.
خطاب التطرف
يمتاز بالعدوانية ولا يتسع حتى لأصحابه، ويتجه إلى استنزاف الأصدقاء، إذ ليس
للتطرف صديق، وحين لا يبقى في المشهد إلا متطرفان اثنان فإنهما متصادمان مقتتلان،
فالتطرف نار تأكل ذاتها ومحيطها وربما تنطفىء قبل أن يصل لظاها إلى العدو.
إن التطرف
يتنافى مع العلم ويخشى الحوار والانفتاح والمواجهة والتقدم والتطور، كما أنه عموما
منهج قائم على المزايدة والمبالغة والتهويل ويعتمد هذا النهج لكسب التأييد
والمناصرة، ولا يفرق المتطرف بين عدو وآخر، بل إنه غالبا يعادي القريب أكثر من
البعيد، مبررا ذلك بدواعي الأولويات، فتطهير البيت الداخلي أولى من المحيط الخارجي،
ولذلك تنشأ لديهم ظاهرة التكفير والتخوين، حيث يبدو العالم كله بعد ذلك بلون واحد،
فتسود لديهم ثقافة «وجهان لعملة واحدة» و«ملة الكفر واحدة». فباعتباره خرج ليحارب «الكفر
السوري» فسوف يحكم على «كفر العالم» كله بأنه عدو له وحليف للنظام، فيغلق الدائرة
ويحجب الأفق، ويمنع التنفس عن نفسه ومحيطه.
إن التطرف يتجافى
مع الوعي السديد والفكر الرشيد، بسبب محدودية خياراته وأحادية نظرته وضيق أفقه
وقصر نظره وسطحية فكره وجمود خطابه وحدِّيَّة معاييره وسوء تقديراته وافتقاره
للتخطيط الاستراتيجي والتدرج والتنوع والمرونة والانفتاح والتأني.
إن التطرف ظاهرة
مبنية على ردود الأفعال الحادة، مما يسبب سهولة استدراجه واختراقه ووقوعه في
الأفخاخ، وعليه فإن التطرف ثقافة قائمة على الانغلاق والانكماش على مفاهيم وتصورات
تكلست في زوايا التفكير يصعب خلعها إلا بانخلاع جدار الذهن معها.
المتطرفون لا
يسمعون ولا يبصرون ولا يتبصرون ولا يفكرون إلا قليلا، فلا يقبلون أي وافد فكري
جديد لأنهم يخافون من التغيير، حتى لو حضرت أسبابه ودواعيه، وقد وضعوا حراسات
مشددة على عقولهم خشية تسلل النور والضياء إليها، لتبقى تجاويف عقولهم في ظلام
حالك، تعشعش في زواياه عناكب الجهل المزري والتخلف المخزي! .
يظهر التطرف في
عدة مظاهر، بتقديم الفروع على الأصول حيث نرى أحدهم يترك أصلاً معتبراً من الأصول لنجده
متشددا في الفروع ومشددا على الآخرين فيه، كما يظهر التطرف في القضايا المتعلقة
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك عندما يؤدي إنكار المنكر إلى منكر أشد منه
في مناخ من الصخب والضجيج.
ويظهر التطرف في
التمسك باللافتات والأسماء والمظاهر حتى لو كانت فارغة المضمون، ونجد التطرف عند
الذين يلزمون الناس بالعزائم وذلك بالضغط والإكراه، وغالبا لا يلتزمون هم بها إلا
رياء وظهوراً، ونجده في تعنيت الناس وحملهم على مواجهة المحال ومجابهة الصعاب التي
لا طاقة لهم بها ولم يكلفهم بها المشرع الحكيم.
يبدو التطرف
واضحا في المزايدة على التزام الناس وإيمانهم، وذلك حين يتهمون الآخرين بمخالفة
الدين، إذا خالفوهم في فهمهم المنحرف عادةً، وفي تفعيل بعض النصوص وتعطيل البعض
الآخر، ليخدم ذلك توجهات المتطرفين المنحرفة، كما ويظهر التطرف في الغلو والمبالغة
فما يرونه من خير فهو عندهم فتح مبين، وما يرونه من شر فهو لديهم خسران مبين.
يمتاز المتطرفون
برفع الصوت وخشونة النبرة وسرعة الغضب وتقريع الآخرين وتوبيخهم بل وتكفيرهم
وتفسيقهم وكأنهم قضاة على الناس، ولا يتحملون الرأي الآخر حتى ولو ابتعد عنهم
قليلا، فمن يبتعد عنهم قليلا أبعدوه كثيرا وربما أبعدوه إلى عالم الفناء، وفي
الوقت الذي نجدهم يرفضون الاحتكام إلى صناديق الاقتراع نجدهم يستسهلون الاحتكام
إلى صناديق الذخيرة والسلاح مدفوعين بموجات من التكبير وكأنهم يخوضون حرب تحرير
مقدسة.
التطرف شكل من
أشكال الجهل، لأن «فقه المتطرفين» لا يحتوي على تفاصيل كافية، إنما هي أحكام
بالجملة، لا تفرق بين حالة وأخرى، والمتطرفون لا يلتزمون بالعهود والمواثيق لأنهم
معتادون على إلزام الآخرين، ومن تعود على الإلزام صعب عليه الالتزام.
إن التطرف حمل
ثقيل يتعب صاحبه مما يجعله يضمر نوايا معاكسة لما هو عليه، ويتوجه إلى الخلاص من
حمله بأي طريقة، ويجمع ما بين الخيارين المتناقضين: «الشهادة أو المهادنة» وذلك تبعا
لكمية الطاقة المتبقية لديه.
عادة ما يتعايش
التطرف مع ظروف الفتن والمحن، وهي الظروف التي تكثر فيها التقلبات والتغيرات
والمغامرات غير المحسوبة، وينمو تحت ضغوط القهر والاحتجاز الذي يولد ردود فعل
ساخطة، بحيث يسخط المتطرف على من غابت فزعته، أكثر بكثير من سخطه على من حضرت
أذيته، وربما يصبح الأول عدوا لدوداً، ويصبح الثاني حليفاً ودوداً.
يترافق التطرف
عادة مع سوء الأخلاق والغضب، لأنه يرى الأشياء دوما على غير مقاسه الفكري، ويرى
الأمور معوجة ومشوهة من حيث لا يعلم أن الخلل يكمن فيه هو لا في الآخرين، فتلازمه
حالة من الثوران والهيجان مادامت الأشياء مخالفة لمقاييسه.
لم أكن أتوقع أن
ينخر التطرف كيانك يا وطني الحبيب، لكنهم خدعوك عندما أوهموك أن الجنة تحت أقدام
المتطرفين، وأن النصر تحت عباءة المتزمتين، فصدَّقتهم يا وطني الحبيب لأنك طيب قلب
سليم النوايا، ولأنك تريد الخلاص من المذبحة الدامية والملحمة الحامية، فظننت أن
مفتاح الخلاص بيد المتطرفين، وما كنت تدري أنهم يملكون مقدح الشرر المتطاير واللهب
المستعر الذي ارتد إليك.
عبدالناصرابوالمجد
23/5/2020.
ليست هناك تعليقات