آخـــر ما حـــرر

لماذا في سوريا فقط يتحدثون عن حل سياسي؟.



لا بد ابتداء من تحديد مفهوم وتعريف الحل السياسي في الصراعات، فحين ينادى بحل سياسي لأزمة معينة فهذا يعني الاعتراف بطرفي النزاع وعدم السماح بانتصار أحدهما على الآخر أو هزيمته أمامه. ويراعي الحل السياسي بقاء الطرفين مع شطب أجزاء من كل منهما لأسباب سياسية أو قانونية.

كما يراعي الحل السياسي موازين القوى على الأرض سواء كانت عسكرية أو اجتماعية أو اقتصادية، إضافة إلى مراعاة التوازنات الدولية، مما يجعل الحلول السياسية ظالمة في معظم الأحيان.

ولتقريب المفهوم للأذهان أكثر يمكن تشبيه فكرة «الحل السياسي» بالصلحة التي تحدث عند النزاعات المجتمعية، والتي تنتهي بالتراضي والتسامح والتنازل.

حين يختصم شخصان تتقدم أطراف معينة لحل الخلاف بينهما فإذا كانت الأخطاء تشاركية بين الطرفين لجأ الوسطاء لحل «الصلحة» حيث يصعب تحديد الطرف الأكثر مساهمة في الإساءة، وعندما تكون مساهمة أحد أطراف النزاع في الإساءة أكثر بكثير من الآخرين فلا بد من حل الأمر بمعاقبة المسيء، وتحصيل الحق للمظلومين، لكن عندما يكون الخطأ من طرف واحد بالمطلق وبحجم يصل إلى الجريمة، فالحل هنا يكون بمعاقبة المجرم وحذفه من المشهد.

معظم ثورات الربيع العربي انتهت بطي صفحة العهد البائد وفتح صفحة جديدة يفرزها الشعب المطالب بالتغيير، علماً بأن الثورات هناك لم تشهد ذلك القمع الرهيب الذي شهدته الثورة السورية، مع هذا نجد أن الدول الفاعلة في الملف السوري سرعان ما تداعت لطرح الحل السياسي وكأن المشكلة في سوريا هي مشكلة سياسية بين النظام والمعارضة والخلاف على الحصص الوزارية، وليست المشكلة بين شعب مسحوق ونظام ظالم مستبد.

الغريب في الأمر سرعة تجاوب المعارضة مع المعروض من الحل السياسي دولياً، واعتقادها بأنه لا طريق آخر لحل القضية السورية، وحديث الكثيرين بأن كل الصراعات تنتهي بالجلوس على مائدة التفاوض، لترويج الأمر بأنه حتمية تاريخية مع حضور أمثلة من التاريخ القريب جداً تكذب هذا الادعاء.

كان على المعارضة والنخب أن تدرك أن المطالب الدولية ليست قدراً محتوماً لا يمكن مخالفته، وأن تلبية الدعوات الدولية للحوار مع النظام ليا ينبغي أن تكون بلا شروط، وكأننا أمام معارضة منزوعة الإرادة ومسلوبة القرار سرعان ما تلبي دعوة الداعي.

كان على المعارضة أن تدرك أن البديل عن الحل السياسي المعروض دولياً هو «العمل السياسي» المستمر دون انقطاع، فقد نلبي دعوة الدول للحوار وقد نرفضها، وفقاً لتقديرات الموقف، لكن الذي يجب ألا ينقطع هو «العمل السياسي» القائم على فكرة عزل النظام دولياً، وهزيمته حقوقياً، وتسويقه إرهابياً، وتسويق الحق الشعبي السوري على أوسع نطاق، وتحقيق الانتصار في معركة الرأي العام، ومعركة الشرعية، ومعركة الحقوق، وانتزاع قرارات دولية مفيدة، واستجلاب الدعم والمناصرة لثورة السوريين.

إن فكرة الحل السياسي من أصلها هي تأويل خاطئ للأحداث في سوريا على أنها صراع بين المعارضة والنظام على مكاسب سلطوية، وهذا مخالف لأصل ما خرج الشعب السوري من أجله حين أطلق مشروعه الثوري العفوي ضد الظلم والطغيان.

لقد أدخلت المعارضة السورية ومعظم النخب رأسها في صندوق «الحل السياسي» ولم تخرج منه، فصارت تفكر باتجاه واحد، ومهما زاد النظام وحلفاؤه من دفعات الإجرام فالمعارضة ملتزمة بخيار وحيد وهو الحل السياسي، هنا انتقلت المعارضة تماماً من «ثوابت العمل الثوري» إلى ثوابت السياسة على اعتبار أنه لا حل في سوريا سوى «الحل السياسي». كل ذلك يحدث وسط إصرار النظام على «الحسم العسكري» و«الحل الأمني»، لتأتي المعارضة بتصريحات هزيلة تنتقد من خلالها النظام بعدم رغبته بالحل السياسي.

عند الحديث عن الحل السياسي فالمقصود هنا المعروض دولياً، وهذا المعروض جاء وفقاً لمسارين: مسار جنيف الدولي ومسار أستانة الروسي، لتقع المعارضة بالخطيئة التاريخية وتقبل بمسار أستانة الكارثي، الذي من خلاله عمل أصحابه على سحب الأرض من تحت أهلها، وحصر الناس في شريط حدودي يزداد ضيقاً.

هي بالتالي ثلاثة أسقف سياسية تم تداولها: سقف «أستانة» القاضي بتثبيت نظام الأسد في الحكم مع إشراك المعارضة بحصص متواضعة وتحت الذل، وسقف «جنيف» القاضي بانتقال حقيقي للسلطة مع الاحتفاظ بحالة تشاركية بين النظام والمعارضة، والسقف «الثوري» القاضي بعزل النظام ومحاسبته على جرائمه. وهذا هو السقف الذي يجب العمل لبلوغه من خلال برامج وخطط تفضي إليه، وعند الضرورة قد ننزل إلى سقف جنيف أما السقف الخفيض فإنه خيار الجبناء الخائنين.

وهنا يبرز السؤال بقوة: لماذا فقط في سوريا يتحدثون عن حل سياسي؟. ولماذا يتم حرمان الشعب السوري من انتصار يستحقه، ويكون فيه النظام القاتل جزءاً من الماضي، يستذكره السوريون بمزيد من الرفض والاستنكار؟.

للإجابة على هذا السؤال يمكن طرح الأسباب التالية:

1.      تسويق الحدث السوري على أنه حرب أهلية: ولم تكن الأمور في يوم من الأيام حرباً أهلية، فالمشكلة هي بين شعب يطالب بحقوقه المشروعة والمستلبة ونظام مجرم لم يترك شكلاً من أشكال الجريمة إلا وارتكبه. فاعتبار الصراع في سوريا حرباً أهلية هو اتهام للشعب السوري بالطائفية التي كان الشعب أبعد ما يكون عنها قبل الثورة وبعدها، وفي الوقت الذي كانت الثورة تؤكد على وحدة الشعب السوري في كل مناسبة كان النظام ينفخ سمومه الطائفية ليستعر الصراع داخل الصفوف الشعبية، ثم يأتي الحديث عن مصالحة شعبية كحل للأزمة السورية، والمقصود هنا الحل السياسي.

2.      تسويق الثورة السورية كحالة إرهابية: لقد حرص النظام منذ اليوم الأول لاندلاع ثورة الحرية السورية على تسويقها كثورة إرهابية تعمل على إقامة إمارات إسلامية تقتل الناس وتفجر في صفوف المدنيين، وقد نجح إعلامه وجماعات الضغط التابعة له وبدعم من حلفائه في تسويق تلك الرواية، وذلك على مبدأ «إذا عجزت عن دفع تهمة الجريمة عني فيجب أن أنجح في تثبيتها على الآخر» فتكون القضية إذاً بين طرفين متعادلين في الإجرام ولا بد بالتالي من الذهاب إلى حل سياسي.

3.      تدخل دول كبرى في القضية السورية: إن كثرة الأطراف المتدخلة في الثورة السورية جعل من الشأن السوري وكأنه صراع بين الدول، لا بين النظام والشعب، ولهذا تم إشاعة أن القضية السورية خرجت من أيدي أبنائها وباتت بأيدي الدول الكبرى، بمعنى أن الحل في سوريا يتبع لتوازنات القوى الدولية لا لتوازنات الحق والحقيقة، وباعتبار أن للنظام داعميه وللثورة أصدقاءها المفترضين، فعلى قوى الثورة والنظام القبول بالحل السياسي الذي يراعي مصالح الدول ويتجاهل إلى حد ما مصلحة الشعب السوري.

4.      وجود معارضة تقبل بالحل السياسي على اعتبار الصراع في سوريا هو بين النظام والمعارضة، بمعنى أنه صراع على مراكز السلطة، والشعب السوري الذي صودرت حريته وكرامته لم يخرج في ثورته لينتزع من النظام الديكتاوري بعض المكاسب السياسية، كوزارة الري والكهرباء، بل خرج لاسترجاع حقوقه، وعندما يكون الصراع بين النظام والمعارضة فلا بد من الذهاب إلى حل سياسي.

5.      مراهنة قوى الثورة السورية على الحسم العسكري: صحيح أن الثورة السورية هي ثورة سلمية في أصل انطلاقتها ومبادئها، ثم استجرها نظام «البارود» إلى العسكرة، لكن الخطيئة كانت بالمراهنة على تحقيق النصر العسكري، ومن راهن على شيء فعليه أن يقبل بالنتائج المترتبة عليه، ومن هنا فإن المجتمع الدولي السياسي الذي دعم الثورة في حرب السلاح هو ذاته من طرح فكرة الحل السياسي عندما تعجز الأطراف كلها عن تحقيق نصر حاسم.

تلك كانت أهم الأسباب التي جعلت القضية السورية محكومة بالحل السياسي دولياً، وكان على المعارضة- لو كانت حريصة على تضحيات الناس- ألا تقبل بالحل السياسي أساس لختم المشهد السوري، فما قدمه السوريون من تضحيات يستحق نصراً حقيقياً كاملاً، ولا يمكن القبول بتهميش الشعب وقواه النضالية عن أي حديث يخص الشأن السوري، فالشعب هو محور القضية، وهو سيدها.

يمكن تلخيص أسباب حصر القضية السورية بالحل السياسي بسبب جوهري واحد يتلخص بتغيير عنوان الصراع وتزييف حقيقته الأصيلة، من صراع بين النظام المستبد والشعب الثائر إلى صراع بين الدول، أو تنافس بين النظام والمعارضة، أو صراع بين طائفة وطائفة أخرى، أو صراع بين نظام «عاقل» وجماعات إرهابية.

عبدالناصرابوالمجد في 17/8/2021.          

ليست هناك تعليقات