هل أرسلت الثورة السورية رسائل مطمئنة للعالم؟.
عند اندلاع نزاع حاد بين طرفين فإن كلاً منهما سيعمل على تحييد الأطراف الأخرى كيلا يتكاثر الخصوم فتتعقد الأمور، ومن الوسائل المستخدمة في عملية التحييد ما يسمى بـ«رسائل التطمين»، وهي التي تأتي على شكل رسائل مباشرة أو أخرى غير مباشرة يتم تمريرها من خلال الأحداث والمواقف.
الهدف الأساس من تلك الرسائل هو إيصال
فكرة مفادها «أن صراعي ليس معك»، وإنما هو مع هذه الجهة التي أتصادم معها بشكل
مباشر. وعلينا الإقرار أن هذا المبدأ في السياسة لا يحتاج مزيداً من التفكير لاستنتاجه،
فهو أمر بدهي شديد الوضوح، بل إنه أمر فطري يمارسه أطفال الحارة ونساء الحي وكل
التجمعات البشرية التي تنشب فيها صراعات، فتجد أن الاصطفافات تأخذ طبيعة تلاقائية
عفوية مع شيء من التخطيط.
للأسف هذه البديهة غابت في الثورة
السورية عن النخب التي في معظمها لم تدرك خطورة إرسال الرسائل الخاطئة ذات المضمون
التهديدي والمتحدي لهذه الجهة أو تلك، حتى أمكن القول: إن ثورة السوريين- وبحكم
الممسكين بقرارها- لم تترك رسالة تهديد
إلا وأرسلتها هنا وهناك.
لا يمكن لوم الثورة السورية على
الرسائل الخاطئة تلك، لأن ثورة الشعب السوري- بنسختها الأصلية- نجحت بإرسال أجمل
الرسائل للعالم كله، في سلميتها وعفويتها، وسموِّ أهدافها، ونبل غاياتها، لكن الذي
أرسل الرسائل المسمومة من داخل الثورة هم القابضون على مفاصل الثورة من جماعة «الإسلام
المسيس» المرتبطين بجهات خارجية محددة، لها أهداف مختلفة كلياً عن أهداف السوريين
المطالبين بالحرية والكرامة.
عندما نعتبر بأن الشعب السوري قد أرسل
رسائل التطمين لا رسائل التهديد، وأن هذا الشعب هو مصلحة وليس مضرة، وكل شعوب
العالم يمكن أن تطمع في التمصلح بأبنائه فيما لو قدم للعالم بطاقته التعريفية، فتلك
حقيقة، وهو الأمر الذي حرصت «قوى الظلام» من الطرفين «النظام والمعارضة» على عدم
حدوثه، بل حرصوا على تقديم الشعب السوري للعالم على أنه وحش كاسر ينتظر الخروج من
القفص لينقض على فرائسه في العالم.
كان من الأهمية بمكان أن توصل الثورة
السورية للعالم كله أننا كـسوريين ثرنا ضد هذا النظام «لا ضد العالم»، ونحن معنيون
بالقضية السورية لا بقضايا اخرى، ولا نعادي أحداً لم يشارك فعلياً «وليس استنتاجاً»
في قتل أهلنا، نشكر من يدعمنا ونندد بمن يحاربنا، ولسنا مهتمين بمراجعة كل التاريخ
وكل الجغرافيا لنبحث عن أعداء غير موجودين في «الملحمة السورية» الدامية.
معظم الرسائل الخاطئة التي أرسلتها
جهات محسوبة على الثورة السورية جاءت مغلفة بالمقدس الشرعي، لتبرر للناس صوابية ما
يفعلون، علماً بأن أسوأ ما يمكن أن يفعله أولو الشأن هو تغليف «الألاعيب الشيطانية»
بالنصوص المقدسة ليسهل تمريرها، وكأنها ركن شرعي أصيل يأثم تاركه.
كما ذكرت الشعب السوري هو شعب لائق أن
يتمصلح به وأن تبحث شعوب الأرض عنه لأنه شعب راق،
وديع، طيب، مبدع، والكادر السوري فعلا جدير بأن تعقد معه الشراكات المنتجة، لكن
هناك نقاط محددة كان على السياسين أن يرسلوا التطمينات بخصوصها، بمعنى آخر فإن العالم
ليس مغرماً ولا مهتماً كثيراً بخصائص شعب عن شعب آخر، ومهما تلاطفنا مع العالم،
ومهما توادعنا معه فهو يريد الاستماع إلى نقاط محددة، حتى يتعرف على البديل عن
نظام الأسد. فلئن كانت عيون السوريين في الثورة السورية موجهة إلى إسقاط وارث أبيه
وترحيله من السلطة ومحاكمته، فالعالم لا ينظر إلى الأمور بهذه الطريقة، فالعالم-
وهنا المقصود العالم السياسي- ينتظر أموراً محددة وهو ليس معنياً بالقضايا
الإنسانية.
ومن أبرز الرسائل التي كان على قوى
الثورة والمعارضة إرسالها:
1. رسائل
التطمين إلى العالم بطريقة أو بأخرى بأن سوريا المستقبل لا تصنع «الإرهاب»، ولا
تحتضنه ولا تستضيفه، ولا تهواه، لأن الإرهاب أصلاً هو عدو أهله.
2. رسائل
التطمين أن سوريا المستقبل غير مغرمة بحيازة «أسلحة الدمار الشامل» ولا معنية بهذه
الزمر من السلاح، وأن سوريا ليست دولة منخرطة في سباق التسلح، وإنما هي دولة متحفزة-
بكوادرها الرائعين- لتنخرط بسباق النهضة وسباق الحضارة والعصرنة، ومهتمة بالفوز بسباق
التنمية والبناء، لا بسباق التدمير الشامل.
3. كما يجب طمأنة العالم
أن سوريا متصالحة
مع جيرانها، ويجب أن تصل الرسالة أن سوريا المستقبل لن تقوم بتسخين «جبهة الجولان»
وإنما ستتابع ما اتقفت عليه الدولاتان سوريا واسرائيل في عام /١٩٧٤/ ثم بعد ذلك
نطالب بحقنا بالجولان، ولايمكن التخلي عنه، فالتهدئة على خط الهدنه في عام /١٩٩٤/
لا تعني التخلي عن الجولان مطلقا، ومن أراد أن يعيِّرنا بهذا الأمر فمن سيعيرنا أصلاً؟..
الذي وقع الاتفاق أم الشهود عليه؟.
4. ومن المهم كذلك طمأنة
العالم بأن سوريا
المستقبل لن تتدخل بشؤون الدول الأخرى، لأنها ليست معنية بتلك البرامج الطائشة، فحسبها
أنها تجرعت المرارة من تدخلات الدول بشؤونها، وستكون مهتمة بتعمير ما دمرته آلة
الحرب الظالمة، وترميم ما خربته قوى الظلام، وتأهيل البنية المجتمعية التي تعرضت
للتصدعات.
5. ومن
المهم جداً تطمين العالم بأن سوريا دولة مدنية عصرية، بنظام ديموقراطي تعددي، يحقق
السلم الأهلي والعدالة الانتقالية، وهي دولة المواطنة لكل السوريين.
6.
كما يتحتم على المعنيين بالثورة السورية تطمين العالم العربي أن سوريا جزء من «المنطقة العربية» ولا
يُقلِقوا العرب بتمجيد «العجم»، فسوريا عربية، وهي جزء من المنطقة العربية وسوف تنخرط
في مفاعيل العمل العربي المشترك.
لكن المؤسف وهذا الذي اريد قوله: إن
مهندس السياسات الايرانية والروسية هو الذي هندس «الخطاب السياسي» لدى معظم «النخبة
السورية» بسبب وجود كوادر مستعدة لتلقي تلك السياسات التي أتت من بعيد وعبر قنواتٍ
ضيقة، نفذها من نفذها في الثورة السورية، فلم يبق «رسالة غلط» إلا وتم إرسالها من
داخل الثورة السورية، والهدف الوحيد من ذلك هو تعطيل قطار الثورة وإخراجه عن مساره،
وإلغاء أي توجه دولي مفترض لدعم الشعب السوري، فلا أحد في العالم مستعد لدعم من
يهدده، ومناصرة من يتوعده.
ما الرسائل التي خرجت من داخل الثورة
السورية؟.
من المؤسف القول بأن كل رسائل الثورة السورية
كانت تهديداً للعالم وليست تطميناً بسبب القابضين على قرار الثورة، كما يمكن
القول: هناك من كان حريصاً على إرسال كل الرسائل السيئة من داخل الثورة السورية،
وباسم الثورة السورية، لتعطيل قطار الثورة، وإخراجه عن سكَّته الصحيحة، ولتفويت
الفرصة على الشعب السوري ليجني ثمار تضحياته المهولة.
وهذه برز الرسائل الغلط التي خرجت من
داخل الثورة السورية على غير رضا من الشعب السوري الثائر:
1. تنظيم
القاعدة: ما إن رأى العالم جمالية المظاهرات السلمية للشعب السوري، وانضباطية شباب
الثورة المنخرطين بالجيش الحر، حتى برزت رايات القاعدة من داخل الثورة السورية،
بترتيبات معقدة اشتركت بها دول وجماعات وشخصيات، لا تريد خيراً بأمِّ ثورات الربيع
العربي.
يعلم الجميع أن العالم مجمع على محاربة
التنظيم الإرهابي، الذي استهدف نقاطاً متعددة في العالم وعلى رأسها أمريكا ثم بقية
الدول الغربية ودول الخليج، وأن هذا التنظيم مقلق للجميع باستثناء أعداء الشعب
السوري المباشرين، ومع ذلك أرادت قوى الظلام والتآمر إظهار الثورة السورية الشعبية
الوطنية كحاضنة للإرهاب الدولي، متمثلاً بتشكيلات القاعدة المختلفة، والتي مضت
قدماً بتحدي العالم، وتوعده بالثبور. ليأتي السؤال التلقائي: كيف سيدعم العالم
ثورة قاعدية؟.
2. الإخوان
المسلمون: تأخر انخراط الإخوان المسلمين في الثورة السورية قليلاً، لكنهم وما إن
اتخذوا قرار الانضمام إلى الثورة حتى بدأوا يتغلغلون في مفاصلها، ولا مشكلة في ذلك
فيما لو تعاملنا ببراءة مع هذا الأمر. لكنهم لم يكتفوا بهذا بل راحوا يزاحمون
بالمناكب كل جهة منخرطة في ثورة الكرامة، وعملوا على تهميش الناشطين والمفكرين
والسياسيين، وعندما تشكل «المجلس الوطني» كواجهة سياسية للثورة سيطروا على المجلس
بشكل مباشر وغير مباشر.
أن يشارك الإخوان في الثورة فهذا حقهم
الطبيعي، وأن يسيطروا على مفاصل الثورة فهذا قد يبرر بنشاطهم وتنظيم صفوفهم، لكن
تهميشهم للآخرين وإرسال رسائل سيئة لدول عربية فهذا أثبت أن مشروع الإخوان ليس
الثورة وإنما امتطاء الثورة لتوجيه ضربات هنا وهناك، وخلع سوريا من محيطها العربي،
وإلحاقها بإيران وتركيا.
والأدهى من ذلك هو بروز الإخوان
المسلمين كبديل حتمي بعد رحيل نظام الأسد، وهو الأمر الذي لا ترحب به معظم الدول
العربية التي لها تجارب معينة مع الإخوان، مما يدعو للقول: إن ثورة يتصدرها
الإخوان ثم يكونون بديلاً عن النظام لن لا يمكن أن تحظى بدعم عربي وخاصة إذا تلقى
العرب السباب والشتائم من صفوف الثورة بإيحاءات وتوجيهات إخوانية.
لا مشكلة أبداً في انخراط الإخوان في
الثورة السورية التي تحتاج لكل جهد وطني فهم جزء من الشعب السوري لكن ليس تحت راية
او مسمى الإخوان المسلمين، وبهذا التحدي السافر، كأنهم يحرمون الشعب السوري من أي
مناصرة، ومع ذلك آتت المناصرة، واتى الدعم، لكن لولا وجود الإخوان المسلمين لكان
الدعم مختلفاً، لأنه لا يمكن أبدا ألا يميز العالم العربي بين أن يكون البديل منتجاً
شعبوياً، أو أن يكون إخوانياً، وبالتالي رسالة التحدي للعرب وصلتهم وسمعوها
بآذانهم، ليس هذا وحسب لكن أديرت الثورة السورية وخطاب الثورة على مهاجمة العرب
وكأنها أذكار الصباح والمساء، فإذا نسيت أنت
الشتيمة الصباحية يدور الطواف ويقول لك اشتم العرب، تنفيذا لمخططات إيرانية
مدروسة، وبعد ذلك ننشد بالهتافات والشعارات «يا عرب خذلتونا».
3. رسائل
التحدي لإسرائيل: فيما يعتقد معظم المتابعين لسياسات الدول أن لإسرائيل دوراً
مهماً في الإبقاء على حكم الأسد وجدنا أن الثورة السورية «المسكونة» أرسلت رسائل
التحدي لإسرائيل، وكان ممكناً- على الأقل- التزام الصمت تجاه ذلك الكيان، وخاصة
أنه بدا صامتاً في معظم مفاصل الحدث السوري، ولم يوجه أي تصريح ينتقد الثورة
السورية أو يسيء للشعب الثائر، بل على العكس رأينا إسرائيل تضرب الوجود الإيراني
في سوريا مئات المرات، وتضرب قواعد تتبع للنظام السوري. بالمقابل فقد ارتفعت أصوات
من داخل الثورة تقول: «من دمشق إلى القدس»، وتهدد بأن إسرائيل ستكون الهدف الثاني
بعد سوريا. هذا الخطاب يحمل في طياته رغبة ببقاء الأسد لأن أصحاب هذا الخطاب هم أنفسهم
من يعتبر أن قرار رحيل الأسد موجود في إسرائيل.
4. رسائل
الاصطفاف مع المحور الشرقي ضد الغربي: فقد أظهرت الثورة السورية «المختطفة»
انحيازاً للشرق ضد الغرب، مع أن الأذى كله قادم من الشرق المقاوم والممانع، صحيح
أن الميل نحو الشرق لم يصرح به لكن العدوانية للغرب مصرح بها وبالصوت المرتفع
وبخطاب متزمت، لا يخلو من الإديلوجيا حتى صرنا نسمع الهجوم على «الصليبية
واليهودية» وكأنه أمر عادي، والغريب في الأمر أنه كلما زادت بطشة «إيران وروسيا» بالشعب
السوري تدفقت الشتائم ضد الغرب، وكأن ذلك ملازم تاريخياً ووراثياً لألسنة الكثيرين.
وذلك الخطاب كان يظهر ولا يغيب في كل مناسبة فظهر في حادثة مقتل الأمريكي الأسود «جورج
فلويد»، وظهر في أحداث باريس فأحرقت صور ماكرون في مناطق المحرر، واليوم يظهر في
الاحتفالات بسيطرة طالبان على كامل الأراضي الأفغانية.
5. رسائل
التدخل في شؤون الدول الأخرى: وهذه من أشد الرسائل خطورة، فقتال بعض العناصر
المحتسبين على الثورة السورية خارج الأراضي السورية ولأهداف تخص دولاً أخرى وتحقق
مصالحه كان رسالة سيئة للعالم بأن الثورة السورية التي تتدخل- من الآن- في صراعات
دول أخرى ستكون جاهزة للتدخل فيما لو أمسكت بالسلطة، وربما ستجعل أحد مواردها
الاقتصادية في القتال خارج الحدود.
6.
رسائل التهديد الطائفي: فقد حرصت قوى
الشر القابعة في زوايا الثورة السورية على بث رسائل التهديد للأقليات السورية،
وكأن الشعب السوري الثائر يتحيَّن الفرصة المواتية لينقض على الطائفة العلوية أو
غيرها، وهذا مخالف لطبيعة الشعب السوري الذي رفض هذا الخطاب البغيض، مما جعل تلك
الأصوات معزولة في زوايا ضيقة.
ختاماً-
شتان بين رسائل الشعب السوري التي تلقاها العالم الآثم في بداية
الثورة السورية، وبين تلك التي تعمَّدت قوى الظلام إرسالها للعالم.
وأياً يكن من أمر تلك الرسائل السيئة التي أرسلت من داخل الثورة
السورية ظلما وعدواناً، فهذا لا يعني أن للمجموعة الدولية العذر في التخلف عن نصرة
السوريين فهناك حدود فاصلة بين «حقوق الإنسان» و«زفارات السياسة».
عبدالناصرابوالمجد 16/8/2021
ليست هناك تعليقات