آخـــر ما حـــرر

أهمية العمل الثوري



لا زلت أتساءل كل يوم عشرات المرات لماذا لا يبذل السوريون الحد الأدنى من الجهد والوقت والعطاء لنصرة قضيتهم؟. لماذا يعتبون على العالم أن يعمل نيابة عنهم؟. لماذا يعلقون كل مشكلاتهم على العالم؟.

ثقافة العمل

أصل القضية يتعلق في فقد الكثيرين لـ«ثقافة العمل» التي يحتاجها كل من أراد بلوغ أهدافه وتحقيق غاياته، والفرق متسع بين العمل وبين ثقافة العمل، فلا يوجد أحد لا يعمل، لكن عمله سيكون عقيماً حين لا يستند إلى أرضية متينة من ثقافة العمل، عندها يصبح العمل متقطعاً غير منتج، يعتمد على «الهبَّات» والفورات والمزاجية، فلا تحضر الرغبة بالعمل إلا في مناسبات محددة، يظهر فيها الشخص المزاجي وكأنه أنشط الحاضرين، ويريد أن يلهب الأرض همَّة ونشاطاً، يعتب على الآخرين ويحضهم ويحرضهم على العمل، وكأن «ساعة الصفر» هي تلك التي تأتي حين تهتاج همَّته، وتنتفض عزيمته، حتى إذا نجح بتحريض من يستمعون إليه على العمل وشرعوا في وضع الخطط وانصرفوا إلى التنفيذ بحثوا عن صاحبهم فلم يجدوه!.. أين هو؟. وبالأمس كان متوقداً ومصاباً بفرط النشاط. ليأتي الجواب بأن الذي كان بالأمس يصرخ معاتباً ومهاجماً الجميع قد نفد شحن بطاريته، بانتظار حضور ظروف جديدة ليعود إلى ثَوَرانه الكاذب. فثقافة العمل هي التي تنتج عملاً متواصلاً لا يتأثر بالهوى الشخصي ولا بالظروف المحيطة، لأنه متصل بالأهداف، ومرتبط بالشعور بالمسؤولية، كما إنه متصل بثقافة النصر، والرغبة به.

أسئلة حائرة تتزاحم في أذهان من حمل المسؤولية بجد وإخلاص، سأحاول البحث عن إجابات لها، ربما تكون مختبئة في زوايا الثقافة الضيقة، أو متوارية في دهاليز البنى النفسية المعتمة.

◘ أبرز سبب للتقصير في العمل هو «ضعف الإيمان» بالقضية، ذلك الإيمان المرجو أن يشكل دافعة للعمل الدؤوب يبدو أنه إيمان مهزوز لدى الكثيرين، فهناك من أوحى للسوريين أن قضيتكم حتى تكتسب شيئاً من الأهمية يجب أن تحمل قدسية ما، وكأن تلك الدماء التي سفكت والأعراض التي انتهكت غير كافية لإضفاء القداسة على قضية الشعب السوري.

◘ السبب الثاني هو ضعف الإيمان بالنصر، مما أضعف الرغبة بالعمل حيث اعتقد الكثيرون أن كل الجهود المبذولة في مقارعة النظام وحلفائه ستذهب هباء، ولا فائدة من إضاعة الوقت. ولقد لعبت جهات محددة على هذا العامل فراحت تضخ روح الانهزام في نفوس الشباب على اعتبار أن هذا النظام متمكن ومتجذر، ولا يمكن إزاحته، وأنه مرغوب دولياً بالنظر للخدمات القذرة التي قدمها للدول الفاعلة وإمكانيته اللامحدودة للتنازل عن ثوابت الوطن ومصالح الشعب. والمشكلة في هذا أن التخاذل الدولي كان العنوان الأبرز الذي طغى على سنوات الثورة السورية، الأمر الذي ترك أثره في لإضعاف روح العمل الثوري.

تشاغل الكثيرون عن العمل الثوري بقضايا أخرى ظهرت أكثر أهمية من القضية السورية، مع أن الأخيرة لا تنافسها قضية أخرى، نظراً للأرقام التي سجلتها، من شهداء ومعتقلين ومتدخلين ومنكوبين. وكأن البعض محتار فيما يجب فعله لقضيته السورية لكنه لا يتردد في قضايا أخرى وأحداث مختلفة بل يبدو متحمساً متشنجاً عاتباً على الآخرين ممن لا يفعلون فعله.

◘ تشاغل الكثيرون عن العمل الثوري المستحق بالسجالات الفكرية، فأصروا على طرح كل الفكر كشرط لازم لإسقاط النظام، ونبش قبور التاريخ كشرط لبلوغ الهدف، فأسهبوا في الحديث عن شكل «سوريا المستقبل»، فقلَّبوا الأمور وأعادوها، ثم نثروها وبعثروها ثم لملموها، وعند كل مِفرق كانوا يختلفون في كل بند وفي كل تفصيل، فكثرت الأوراق حتى وصفت بحال «الورَّاقين»، بينما النظام وحلفاؤه يتقدمون ويقتلون ويدمرون.

 ◘ من أسباب ابتعاد البعض عن العمل الثوري طبيعة تصوراتهم الفكرية وقراءاتهم السياسية فمن امتلأ ذهنه بقضية قديمة سيضيق بأي وافد جديد حتى لو كان بحجم وطن وشعب. ومن تلك التصورات أن الجميع أعداء للشعب السوري، ذلك التصور الذي تم إملاؤه على العقلية السورية عن دراسة وتدبير، وهو أحد أهم الأسباب التي ألغت الحماسة للعمل فحين ينعدم الأمل يرتفع العمل.

◘ من أسباب فتور العمل الثوري لدى شريحة من السوريين المعارضين لنظام الأسد تضخيمهم المتعمَّد لبرنامج العمل الثوري، «فمن لا يريد العمل سيضخِّم برنامج العمل».. فقد أضافوا لأهداف السوريين الثائرين أهدافاً أخرى غير التي خرج لأجلها الناس، وأضافوا لقضية الشعب السوري قضايا أخرى تتصادم مع قضية السوريين، كما أضافوا لأعداء الشعب السوري قائمة أخرى من الأعداء مع أن الأعداء الحاضرين من الوزن الثقيل في إجرامهم وعدوانيتهم.

◘ ومن أهم أسباب تعطيل العمل الثوري في مساحات كثيرة ذلك الانقسام الذي افتعله أرباب «الإسلام المسيس» حين بادروا لتقسيم النخب الثائرة ما بين «إسلامي وعلماني»، ففي الوقت الذي فشل النظام بإحداث ذلك الشرخ العمودي في مجتمع الثورة نجح الإسلامويون بهذا حتى صار المصطلح متداولاً على أوسع نطاق، ويتم الزج به لتعطيل أي عمل، بينما أحدثت الثورة السورية تقسيماً جميلاً يمكن البناء عليه وهو «المويدون والثوار»، فهذا التقسيم يحافظ على وحدة الشعب الثائر بخلاف التقسيم المصطنع. ولو أضفنا الانقسامات الأخرى كالفصائلية والمناطقية والحزبية و«الداخل والخارج» لتبين أثر ذلك في إضعاف العمل الثوري.

◘ وهناك سبب مهم لضعف العمل الثوري مرتبط بالتهميش والإقصاء، فقد عمل الواصلون إلى الصفوف المتقدمة في الثورة السورية والممسكون بمفاصلها على مزاحمة كوادر الثورة، حتى احتاج كل راغب بخدمة قضيته أن يبذل جهوداً إضافية ليقوم بدوره، وفي معظم الأحيان يتم اختطاف جهده وهو يرى ذلك رأي العين. ففي الوقت الذي كان يجب تفسيح المكان لكل من يرغب بالعمل الثوري وجدنا أن الأمكنة كلها مشغولة ومحتلة ممن لا يتقنون العمل وربما يتقنون الهدم. يضاف إلى ذلك انتشار «ثقافة التخوين» التي منعت الكثيرين من أداء دورهم النضالي، فكيف ينخرط الشريف بالعمل وهو محتاج لدفع تهمة الخيانة عنه؟.

العمل الثوري الحقيقي هو الذي ينطلق من الشعور بالمسؤولية التي ترتِّب على صاحبها واجب العمل، فالعمل الثوري واجب وليس ترفاً أو تسلِّياً وملء فراغ، لذا تحتاج الثورة السورية من أتباعها إلى جدية أكبر من تلك التي أظهرها الكثيرون ممن يحرصون على إنهاء كل شيء من همومهم الشخصية قبل أن يلتفتوا إلى العمل الواجب والمحتم.

ليس مقبولاً أن يميل الحمل على عدد محدود من الأحرار الثائرين على حكم الأسد وكأنهم وحدهم من يجب عليه البذل والتضحية والعناء، ينامون ويستيقظون وفي قلوبهم ووجدانهم هم الوطن والشعب، ولو توزع الجهد على عدد أكبر من الناس لأنجزنا الكثير من الأهداف في وقت قياسي.

العمل الثوري شرف لأصحابه وليس عبئاً عليه، شرف ومفخرة لأن مرتبط بعظم الأهداف وجسامة التضحيات، ومتصل بدماء الشهداء وقيمة الوطن، هو الشرف الذي لا يناله إلا الصادقون من أبناء الوطن والثورة، من الذين اندفعوا وجدانياً للعمل دون وجود من يحضُّهم عليه.

لا شك أن جميع السوريين سيفرحون برحيل النظام، لكن ليس كل الذين سيفرحون سيتذوقون معنى الكرامة ويتمتعون بحقيقة الحرية، وربما ظهر كثير من الغائبين عن المشهد يزاحمون على الصفوف الأولى ليأخذوا موقعاً مرموقاً في سوريا القادمة.

كثير من الناس تحمسوا في اللحظات الأولى لاندلاع ثورة الكرامة لكنهم سرعان ما انطفأوا وعادوا إلى حياتهم الطبيعية غير مكترثين بشيء، مع أنهم سجلوا أعلى صوت في بدايات الثورة، فيبدو أنهم اكتفوا بتسجيل الحضور أول يوم وغابوا بعد ذلك كل الوقت.

مع كل هذا يمكن القول: إن معظم أهداف الثورة تحققت بجهود تلك القلة القليلة التي انخرطت بالعمل الثوري رغم الصعاب والعقبات، سواء من عملوا في ميادين الحرب الخشنة أو العاملين في الحرب الناعمة كالإعلام والمظاهرات وفي الجانب الحقوقي.

ومن المهم الاعتراف بأن السوريين- عموماً- نجحوا كأفراد وفشلوا في العمل بروح الفريق، وتلك الثغرة تسببت بضياع كثير من فرص العمل ومن الفرص المصلحية التي احتاجها الشعب السوري.

علينا الاعتراف بأن الطاقة الكامنة للشعب السوري تكفي لإنجاز الأهداف وزيادة، لكنها كانت طاقة مجمدة سكونية، ولم يتم استثمارها وتوظيفها لخدمة أهداف الثورة السورية.

كم كان مؤلماً رؤية تلك الأعداد القليلة في المظاهرات والاعتصامات ومنصات التواصل حتى بدت قضية السوريين وكأنها معزولة، وظهر أن البعض زاهد في متابعة شؤون بلده وأهله فاكتفى البعض بدور المتفرج والبعض الآخر غادر الملعب ولا يريد أن يكون من المتفرجين.

وكم كان مفجعاً التزام الكثيرين بالصمت عندما يتم طرح الأمور العملية، حتى إذا طرح أمر خلافي فسرعان ما تنفتح كل قرائحه في حديث مسهب، يتناول كل تفاصيل الحالة.

كم كان مدهشاً اختفاء الكثيرين عن ساحات العمل لأجل سوريا وشعبها ضد سفاحيها ومدمِّريها، حتى إذا حضرت قضايا أخرى وجدناهم متكلمين ونشيطين وكأنه يوم البعث يوم يبعث من في القبور.

وكم كان محزناً عدم تمييز البعض بين ما هو نظري وما هو عملي، لا يعرف ما يمكن فعله، متسائلاً دوماً عن الحلول، وكأنها ألغاز أو طلاسم.

وكم كان مدهشاً اشتراط البعض أن يكون في الصف الأول والمركز الأعلى، كي يقدم جهده القليل، والبعض الآخر من الذين لا يعملون إلا بغطاء مالي.

يا أحرار البلد

سوريا تستحق منا كل عطاء، وشعب سوريا يستأهل كل الدعم، وما قدمه السوريون من تضحيات يستحق أفضل الجوائز، وأقلها ترحيل النظام القاتل ومحاكمته على جرائمه التي فاقت كل تصور.

عبدالناصرأبوالمجد  

هناك تعليق واحد:

  1. فقط لفقدان قائد تلتف حوله القوى المتشظية. الداخلي منها والخارجي. وفقدان الآليات اللازمة للعمل لعدم وجود ذلك الرمز الثوري

    ردحذف