آخـــر ما حـــرر

للحرية قيمة لا يعرفها إلا السادة الأحرار

 




لا يمكن لمن اختار طريق الحرية أن يندم عليه، مهما كانت التضحيات، لأن الثورة غضب متفجّر ولم يبدر من نظام القتل والإجرام ما يسكّن الغضب المتصاعد، بل على العكس تماماً فقد بدا من النظام ما يلهب براكين مستعرة من الغضب الملتهب الذي لا يهدأ إلا بعد استئصال شجرة الظلم من قعرها.

دواعي الثورة حاضرة منذ جلس الأسد الكبير على كرسي الرئاسة وراح يبطش بالناس ظلماً وعدواناً، ودواعيها مستمرة حتى يرحل الأسد الصغير عن موطن الأحرار، وإذا كان للثورة في بدايتها بعض المبررات لاندلاعها.. فاليوم ظهرت آلاف المبررات والدواعي لاستمرارها.

لقد كشف السوريون- في ثورتهم- عن شجاعة منقطعة النظير، شجاعة تستحق من العالم كل احترام وتقدير، وسواء قدّر العالم للسوريين أصالة معدنهم أو لم يقدّر فإن شعب سورية سجّل اسمه في سجّل الميامين.

كانت مخططاً لسورية- قبل ثورة الكرامة- أن تنقسم عمودياً ما بين أسياد وعبيد، أسياد يتحكمون بكل شيء، وعبيد لا يملكون من أمرهم أي شيء، وليس مطلوباً منهم سوى أن يتقربوا من الصنم المقدس ليسبحوا بحمده ويتمسحوا بجنابه.. لنيل الرضى منه والقبول.

قبل ثورة الكرامة كان مطلوباً من الإنسان السوري أن يغلق عقله عن التفكير إلا في الإطار الذي يحدده السيد المستبد، وأن يلجم لسانه عن الكلام إلا بما فيه فيض من المدح والثناء على الحاكم بالأمر الواقع، لكن ثورة الكرامة غيرت الموازين حتى صار الحاكم أهون من الهوان عند الصغير قبل الكبير.

كان مطلوباً من المواطن السوري- قبل الثورة- أن يرتب مشاعره العاطفية على النسق الذي يرضي الوثن الحاكم.. فعليه أن يهوى كل من تأمره السلطة بحبه.. ولو كان جيفاً نتنة.. في أجواف عفنة .. وعليه أن يمقت كل من تملي عليه السلطة كرهه ولو كان من خيرة السادة النجباء.. وعلية الأعيان من الشرفاء.

لم يكن لدى حكام سوريا أدنى أهلية للحكم والإدارة.. فقد كانوا مؤهلين لشيء واحد فقط هو ضرب الناس وإهانتهم وسحقهم ومحقهم، بحيث لا يبقى رجل حر أبي يرفع الرأس والصوت عالياً.

لقد كان مطلوباً من السوريين أن تنحني هاماتهم إجلالاً وخضوعاً لطاغية الشرق، وأن ينقادوا كالقطيع إلى حيث يريد، وأن يؤمنوا بأن الخطأ هو بما يراه السيد المعتوه خطأ.. والصواب هو ما يقرر الحاكم الصعلوك أنه صواب.

من المحال أن تتخلى جوقة العبيد المناكيد عن العيش في قعر ذيل الطاغية الفاجر.. فهؤلاء وحدهم يزداد حبهم للقاتل كلما ازداد القاتل في الإجرام.. كما من المحال أن ينحاز الأباة والأحرار إلى قطيع العبيد الذي يطوف حول أقدام الصنم الحاكم  مهما زادت سطوته وجبروته.

عبيد النظام يجدون صعوبة في تصور أن سيدهم يخطئ حتى ولو كان غارقا في وحل الخطايا.. بل يرون أخطاءه منهاج الحياة المقدس الذي ينبغي ألا يدنّس بتصويب أو تعقيب.

لا يقدّر قيمة الحرية إلا السادة الأحرار.. ففي ضمائرهم ثورات وثورات.. وفيها تكمن معاني الإنكار والرفض للخضوع.. والانقياد لكائن بشري يسلبهم جوهر الكينونة البشرية.. والحرية هي جوهرها النفيس.

لن يكون حراً كريماً من فرضت على عقله «الإقامة الجبرية».. ولن يكون حراً عزيزاً من احتجز لسانه وراء قضبان أسنانه.. ولا يستقر الطغاة على عروشهم إلا إذا أسروا العقول وكمموا أفواه البشر.

الحرية نعمة من الله لأنها أس العدالة وأساسها.. ففي رحاب الحرية الحقيقية سوف يصل إلى الصفوف الأولى السادة الحكماء الأوفياء.. وفي مناخ العبودية فلن يتقدم إلا السفهاء البلهاء.

إن مناخ الحرية هو المناخ الوحيد الضامن لأن تصان الحقوق ولا تهدر الكرامات في نفايات القهر والتنكيل.. فالحق لا يضيع إلا حين تسلب الإرادات.. وتحاصر القدرات.. وتكثر القيود وتزداد الأطواق.. وتضيق الحبال على الأعناق..

الحرية شأن إنساني يختلف عن كل الشؤون.. حيث تتيح للكائن البشري أن يخرج مخبوءاته المفيدة ومكنوناته النافعة.. لتعود على المجتمع بالخير والنماء.. والنهضة والبناء.. أما الحرية التي تخرج نوازع الإثم والعدوان فليست حرية حقيقية.. إنما هي تمرد على الفضائل والقيم.

إن للحرية ثمناً تدفعه طليعة الأحرار.. ويزداد الثمن بمقدار كمية الكرامة التي سلبها الطاغية من الناس.. ومدى تجذرّه في واقع الحياة.. وشعب سوريا اليوم يعلّم العالم درساً للتاريخ بألا يسمحوا لأي طاغية أن يتجذّر في المجتمع حتى لا يكون ثمن الحرية باهظاً.

لا يستسيغ العبيد طعم الحرية.. فطعم الحرية تحت ألسنتهم مرّ المذاق.. علقمي النكهة.. لأنهم تجرعوا كؤوس التذلل مترعات.. وتضيق نفوسهم في الفضاء الرحيب.. فقد تعوّدوا على ذلّ القيود واستطابوا رصّة الأغلال.

لا يستطيع العبيد انتزاع حريتهم بأيديهم.. لأنهم- ببساطة- لا يملكون الإرادة في الانعتاق من ربقة الخنوع.. ولا يملكون الرغبة بتغيير أجواء الهوان، لأنها بيئة ملائمة لتركيبتهم النفسية المفككة.

الثورة السورية مدرسة في الكرامة والكبرياء.. فلا قيمة للإنسان حين ينتزع منه رداء الشرف.. ولا مهابة للمرء حين يخلو كيانه من عنصر العزة والإباء.. الكفيل بديمومة العيش الكريم.

ليست هناك تعليقات