آخـــر ما حـــرر

الظروف العامة التي سبقت الثورة السورية


 

منذ وصول حزب البعث إلى السلطة انطفأت أضواء سورية تدريجياً، ودخلت في ظلمات الدكتاتورية المركبة، لكنها ديكتاتورية ممنهجة، بمعنى أنه تم إخضاع المجتمع السوري لبرنامج تأهيلي لجعله يقبل بواقع العبودية على أنه مصلحة للوطن، يرافقه عملية ترويض نفسي للقبول والرضا بأي شيء يفرض على الناس فرضاً، حتى وصلت الأمور إلى توظيف فئة مهمتها فقط أن تطالب المستبد بمزيد من الظلم والعسف بزعم أن ذلك يصب في صالح الوطن والمواطنين لتنتشر بعد ذلك ثقافة أن الشعب لا يستقيم إلا بالقوة.

ما إن وصل حافظ الأسد إلى السلطة حتى شرع بتنفيذ برنامج ديكتاتوري شديد التعقيد، وتمكن من إدخال مواد هذا البرنامج في كل مفاصل الحياة التعليمية والمدنية والعسكرية والسياسية، وعمل على عزل المجتمع السوري عن الآفاق العالمية الخارجية، ووضع للمخالفين قوانين وضوابط تعاقبهم فيما لو أطلّوا من النوافذ الضيقة للأسوار العالية باتجاه  العالم المتحضر تحديداً معتبراً ذلك خيانة عظمى. نظام الأسد أغلق كل نوافذ الوطن وأرخى الستائر، حتى لا يرى الناس ما ينعم به العالم من حرية ورخاء وتنمية، لكنه في الوقت ذاته ترك نوافذ واسعة تسمح للشعب السوري بمتابعة تطورات كل من المجتمعين الإيراني والروسي، على اعتبار هذا المعسكر مثالاً يحتذى لسورية.

كما عمل الأسد الأب على إلغاء أي شكل من أشكال الحريات السياسية والفكرية والثقافية والمدنية، فكمم الأفواه، ووضع العقول تحت الإقامة الجبرية، وصادر كل أنواع المعارف إلا التي تكرس واقع القداسة للصنم، وحذف كل الشخصيات المستنيرة التي يمكن أن تشكل خطراً على حكمه، وحصر ثقة الناس بشخصه لكيلا يرى الناس إلا القائد الأوحد، وليصبح المرجع الوحيد في كل شيء.

فهو القائد الرمز والرقم الصعب والظاهرة الاستثناء، وهو الملهم الذي لا يخطئ وأقواله منهاج حياة ومنارة للمستقبل، وعلى الناس أن يؤمنوا بأن الأسد يمارس عين الصواب حين يقع في عين الخطأ، ويسجل أروع الانتصارات حين يهزم أفدح الهزائم، وهو محور للعالم المنشغل به وبإنجازاته، هو الأب القائد الذي يجب عليك أن تعتذر منه إذا ظلمك، وأن تهتف بحياته وتفديه بالروح والدم إذا عفا عنك بعد العقوبة الجائرة.

لقد مارس نظام الأسد على الشعب السوري تسلطاً لا مثيل له، فوظف الناس كعيون له لتفسد العلاقات وتتفسخ الضمائر، ولعب على كل أوتار الفرقة في البنية المجتمعية السورية كالقبلية والعنصرية والحزبية والفئوية ليدير كل أنواع الصراعات بما يخدم عرشه الأوحد.

ومارس نظام الأسد الطائفية بكل أبعادها في الجيش والوظائف والتعيينات والامتيازات، ليكون لطائفته الحظ  الأوفر في الفرص، بأهلية وبغير أهلية، وفي الوقت الذي يمارس فيه الطائفية عملياً فقد منع أي شكل من أشكال الحديث عن الطائفية، لتبقى تلك العورة مستورة مهما مارسها.

كما أشاع الفساد في صفوف المجتمع السوري فانتشرت الرشوة والمحسوبية إلى درجة أن المواطن لا يستطيع أن يحقق مصالحه إلا بالتزلف للكبار والأعيان، فيبذل جزءاً من كرامته على أعتاب صغار الطواغيت، ثم يعود يلملمها وهو خارج من مكاتبهم، ليباهي بين الناس بالمكتسبات التي تحصل عليها.. واستشرى الفساد في المجتمع السوري حتى صار ثقافة وتقليداً تصعب معالجته ومحاربته، لأنه محميّ أصلاً من طواغيت السلطة دخل برنامج الاستبداد بقوة إلى مناهج التعليم ليتشرب الأجيال حب القائد مع كل حرف يدرسونه ومع كل هتاف يهتفونه ومع كل أنشودة تتغنى بأمجاد القائد الفذ، وعلى الأجيال كلها أن تؤمن بأن سوريا كلها مختزلة بالقائد، فسورية هي الأسد، والأسد باق إلى الأبد.

وقد تمكن ديكتاتور سوريا من إيجاد صيغة سحرية ثنائية الأبعاد البعد الأول يتعلق بحقن المجتمع السوري بمناعة ضد أي تمرد محتمل، ليطمئن الأسد بأن المجتمع السوري لا يمكن أن ينقلب عليه مهما ساءت الظروف، والبعد الثاني هو مناعة ضد التدخل الخارجي لإزالته، فعندما يتشكل أي خطر خارجي ضد الأسد فأول من يتطوع لنجدته هم المعارضون لحكمه إن وجدوا، لأن مقولة «سورية الأسد» مخزّنة في العقل الباطن لكثير من المعارضين، فالاعتداء على الأسد هو اعتداء على سورية، وما على المعارضة إلا أن تثبت وطنيتها بالدفاع عن الأسد.

لقد بنى الأسد منظومة كبرى من الفساد على التوازي مع مملكة الرعب، على اعتبار أن منظومة الفساد هي إحدى أسوار الحماية للعرش المقدس، فقايض الأمن بالمال، يأخذ المال الكثير مقابل تأمين شيء من الحماية الأمنية لزبائنه المواطنين، الذين يتقون شرور رجال الأمن. وبذلك وضعوا أيديهم على كل مفاصل الحياة الاقتصادية، حتى أصبحت سورية البلد الأقل أمنا في العالم، وبهذا تتحقق معادلة شديدة السوء في سورية، فلكي تكون ثرياً يجب أن تكون لصاً، وحتى تكون قوياً يجب أن تكون عبداً، ولكي تكون آمناً يجب أن تكون مجرماً.

لقد أراد الأسد تغيير المنظومة القيمية في المجتمع السوري، ليدخل الناس جميعاً في معمل لمسخ الرجال، ثم يخرجوا من البوابة الأخرى وقد تبدلت ضمائرهم، وتغيرت مشاعرهم، وتشوهت عقولهم، ليتم تعبئتها بأكياس وفقاً للمواصفات القياسية، لإنسان فاقد لكل ما يتعلق بالإنسانية باستثناء شكله.

في سورية الأسدية يتحول الكائن البشري من إنسان سوي قويم إيجابي مستقيم، إلى إنسان رخيص خاضع مطواع، يردد في الصباح والمساء أوراد التقديس للصنم العملاق، وكان يراد للشعب السوري أن يكون مستنسخاً على قالب واحد في نمط التفكير والتقدير.

وعلى الناس أن يتوصلوا إلى قناعة أن الأسد- الذي علقت  صوره في البيوت والدوائر والمعامل والشوارع- هو موجود في كل مكان، يسمعهم ويراهم، حتى سادت ثقافة أن للجدران آذاناً.

وبعد هلاك الأسد الأب توقّع الكثيرون بأن الأسد الابن قد يحمل جديداً في مجال الانفتاح والتقدم والتطور والحداثة والحريات، على اعتبار أنه شاب وطبيب، فعندما يكون الرئيس شاباً فسوف يعرف هموم الأجيال الجديدة، وعندما يكون الرئيس طبيباً فسوف يحس بمعاناة المرضى والبائسين، ثم اكتشف الناس- بعد حين- أن الشاب الأمل هو عجوز مخضرم في الظلم الاستبداد، وليكتشفوا أن طبيب العيون لديه هواية بقلع العيون لا بتطبيبها.

ثم تسرب لاحقاً للناس توضيح من المقربين من الأسد الصغير أنه كان منهمكاً في إثبات أن قوة شخصيته تفوق شخصية والده الذي سحق الشعب السوري سابقاً، وأراد أن يثبت للحرس القديم قدرته على قمع الناس وإمكانيته على السيطرة على كل موقف، وتعني قوة الشخصية عند المجرمين ارتكاب مزيد من الظلم والتسلط وسحق الناس ومحاصرتهم، فقد ورث بشار عن والده كل جينات اللؤم والهمجية وأضاف إليها لمسة من لمساته الطائشة المجنونة.

لقد دخل الرئيس الجديد معترك السياسة ليثبت لطائفته أنه أشد إخلاصا للطائفة وحرصاً عليها من الآخرين، وسوف ينتزع لهم من أجزاء الوطن أكثر مما فعله الهالك المقبور، وليثبت للقوى الخارجية بأنه أكثر جرأة من أبيه على التنازل عن الهوية والقرار، ليضعها تحت تصرفهم مقابل تثبيته في السلطة للأبد.

ناصر ابو المجد 6/8/2015.

ليست هناك تعليقات