آخـــر ما حـــرر

السوريون بين الوطنية والمواطنة والتوطين

 



ما هو موقع السوريين من وطنهم ومواطنيهم وأوطان أخرى لجأوا إليها؟.. سؤال يبدو غريباً لأول وهلة، فكل الشعوب يحبون أوطانهم، وأهليهم، فما الداعي لطرح السؤال حين يتعلق الأمر بالسوريين؟.

حين نرى قليلاً من السوريين يهتم بما يحدث في سوريا مقابل كثير من اللامبالين فسوف يفرض السؤال نفسه للبحث عن إجابات واقعية.

فكما وقع الظلم الكبير على الشعب السوري وتحديداً خلال العقد الماضي من الزمن فقد وقع الظلم على «مفهوم الوطن».. ظلم أتى من جهتين: من النظام ومن المعارضة.

إن غريزة الانتماء للوطن خلقت مع الإنسان. فمع لحظات الولادة الأولى تبدأ التصاوير بالتراكم في ذهن الكائن البشري، صانعة ذكريات لا يمكن تناسيها، فالوطن هو مراتع الطفولة ومقاعد الدراسة والحديقة والعيد، وجَدِّي وجَدَّتي.

الوطن هو الأمان والاستقرار والحقوق والحياة الكريمة. الوطن هو المكان الذي لدينا حصَّة فيه، ولا نشعر بالغربة فيه، ولا بالظلم، ولا نشعر بالخوف ولا التمييز. الوطن أسرة كبيرة وقَّع أبناؤها على عقد شراكة تتيح التواصل بالمحيط والتأثير فيه.

الوطن هو الناس، والأصدقاء ورفاق النضال، بمن فيهم الشهداء والمعتقلون. الوطن هو المكان الذي يُسخِّر ثرواته خدمة لأبنائه وليس مكاناً مؤقتاً للإقامة.

وعندما اشتدت بوطننا الحبيب النوائب والمحن تبيَّن أن أول شيء تنازل عنه كثير من السوريين هو الوطن!. فتخلوا عنه بسهولة ويسر.

فمن فقد بيته قال: لا شأن لي بوطن لا بيت لي فيه.

ومن ناله بعض الأذى نتيجة الأحداث المؤلمة قال: لا علاقة لي بوطن ذقت فيه الأمرين.

ومن احلولى في عينه بلد آخر شرب المدامة عليه حتى سكر فنسي بلده الأم سوريا.

ومن لم يجد في سوريا فرصة للتمنصب ووجدها في مكان آخر عشق المكان البديل وباع وطنه بزهيد الأثمان.

ذاب الوطن في الانا والحزب... والأمة... ذاب فغاب.. وحين بدأ يحترق لم يتحرك كثير من أبنائه لإطفائه.

ولقد تملكتني الدهشة عندما اطلعت على تقرير تضمَّن استطلاعاً لآراء بعض السوريين في بلاد اللجوء، أجرته إحدى الصحف، فقال أحدهم عن الوطن: سوريا ليست أفضل البلدان.. وقال آخر: رأينا في الغربة كيف تخرج قوات حفظ الأمن والشرطة لحماية المواطن عندما يريد التعبير عن رأيه. فتذكرنا المشاهد المختلفة في سوريا حيث يُضرب المحتجون بكل أدوات القمع بما فيها إطلاق النار، فالوطن هو أن تسمع كلمة «الأمن» فتشعر بالاطمئنان لا أن ترتعد فرائصك رعباً منها.

وأجاب أحدهم بالقول: الوطن أصبح أي مكان أشعر فيه بالحرية والكرامة والمساواة، لذلك أصبحت سوريا وطناً مؤجلاً.. فرنسا هي وطني البديل.

وهناك من قال: الوطن الذي لا يميز بين مواطنيه إن كان ابن الريف أو المدينة، ويقدم الخدمات ذاتها للجميع هو وطني. وكيف سأخدم وطنًا لم يخدمني.. ونظر أحدهم إلى الوطن من بوابة الصداقة والأصدقاء فقال: وطني الحقيقي هو الأشخاص الذين أحبهم في أي مكان على الأرض.

واستمرت الإجابات حاملة نظرة سلبية ومفاهيم خاطئة عن الوطن، حتى قال قائلهم: لم تعد تعنيني العودة إلى سوريا دون وجود عائلتي وأصدقائي، بالطبع هنالك أمكنة محددة مرتبطة بالذاكرة أحب أن أزورها يوماً ما، ولكن ليس للاستقرار!. لأن الأشخاص الذين كونت ذاكرتي معهم لم يعودوا هناك.

وآخر يقول: اليوم، لم أعد أرى أن هناك وطناً وقضية وعَلَمَاً، وأصبح الوطن المكان الذي يمنحني حقوقي ويشعرني بإنسانيتي، والمنظومة الاجتماعية التي أعيش فيها، وأتفاعل معها كإنسان، بعيداً عن أي عَلَم أوجغرافيا.

أمام تلك الإجابات البائسة عن «الوطن والوطنية» لابد من البحث عن الأسباب التي دعت إلى ذلك النفور من سوريا لدى شريحة واسعة من السوريين.

♦ لقد اختلط مفهوم الوطن بشخصية «الأسد» حتى صار شعاراً رددته الأجيال، «سوريا الأسد».. وحين ارتكب الأسد كل تلك الجرائم نفرت منه القلوب، وكذلك نفرت من سوريا عموماً، وكأن «سوريا الوطن» هي التي ارتكبت كل تلك الفظاعات بالشعب السوري الجريح.

♦ يصحو السوريون كل يوم على قضية الجولان ليجدوا أن قطعة من أرض الوطن مستلبة، و«ربُّ الأسرة» لا يفعل شيئا حقيقياً لاستعادتها، وعندما تستعصي قطعة أرض تهون في أعين الناس، وتهون معها قيمة الوطن.

♦ ينشأ السوريون في وطن يتخاطفه الفاسدون، إلى درجة أن الرشاوى صارت ثقافة والمحسوبيات صارت عرفاً متجذراً بين الناس، مما يقلل من قيمة موجودات البلد التي تباع وتشترى بأرخص الأثمان، وهذا يضيف سبباً آخر لهوان الوطن في نفوس بعض السوريين.

♦ عانى كثير من السوريين من شقاء المعتقلات والاستدعاءات الأمنية فارتبطت قيمة الوطن بما يكابده الناس من شقاء التعذيب والتنكيل، حتى قال قائلهم: "كيف أحب وطناً يعذبني؟"..

♦ بعد أحداث الثورة السورية دخل مفهوم جديد كان سبباً في ابتعاد السوريين عن وطنهم وهوانه في نفوسهم، وهو مفهوم «الأممية» ببعده الداعشي المتطرف، فانخلع البعض عن الانتماء للوطن، بدعوى أنهم منشغلون بهموم الأمة، ولا بأس من التضحية بالجنين لتسلم أمُّه.

♦ ومن أسباب هوان الوطن في نفوس أهله ذلك النزوع الحزبي المقيت أو الطائفي الذميم، فحين يطغى الانتماء للحزب أو القبيلة أو الطائفة على حب الوطن فسوف يفقد الوطن مكانه في النفوس، وقد حدث هذا بعد اندلاع الأحداث في سوريا، حيث تمترس الكثيرون خلف حزبياتهم وانتماءاتهم الضيقة.

من خلال هذا العرض يتبين أن «الوطن السوري» لم يكن أحسن حظاً من «الشعب السوري» كلاهما كان ضحية لممارسات الديكتاتور، وحماقات المتشددين، فتفكك مفهوم الوطن وتلاشت معانيه الراقية.

ومهما يكن من أمر فمن ترك الوطن فسيجده أمامه في أنس السوريين وفي نكاتهم  وطعامهم.. في جدالهم وخفة روحهم وطيبة قلوبهم..

وأخطر مشكلة فعلاً هي أن يستلب الوطن من داخل الوجدان حين يظن البعض أن الوطن مجرد بيوت وشوارع وجدران. فيا أيها السوري أصعب شيء يمكن أن يحدث هو أن تفقد وطنك وجدانياً ثم لا تكتسب الوطن البديل.. فاجعل من وطنك الأم هو الهوية والقضية، ولا مشكلة أبدا في جعل الوطن البديل الفندقَ الذي تنام فيه أو المطعم الذي تأكل فيه..

ولا يمكن لمفهوم الوطن أن يتغير، فهو المكان الذي ولدنا فيه وننتمي إليه، حتى وإن زرنا كل دول العالم وأخدنا جنسيتها.

ويا من وجدت الشقاء والعناء في الوطن ليس الوطن من آساك بل هو من واساك، ونظام الديكتاتور هو الذي آذى الوطن وآذاك، فلا تظلم المظلوم وتنسى الظالم.. وأكبر خطيئة في مفهوم الانتماء للوطن هو أن تنسب أفعال المستبد للوطن..

لجوء السوريين للدول الغربية فتَّح نواظرهم على حياة أخرى لم يكونوا يعرفونها في بلادهم فظن البعض أن الخلل في البلد وليس فيمن أحرق البلد.

أتعجب من الذين يسهبون في الحديث عن «المواطنة» ويتجاهلون ذكر «الوطنية»!... فالوطنية هي الانتماء الحقيقي للوطن انتماء وجدانياً وفكرياً.. والمواطنة هي الصحبة الطيبة مع أبناء الوطن.. وتشبيك اليد باليد لبناء البلد على أسس متينة من الحرية والكرامة والعدالة والقانون.. ولا يفعل ذلك من كان مجافياً لوطنه هائماً في حُبِّ المسكن الغريب.  

 

هناك تعليقان (2):

  1. من لم يكن له بداي وجذور متفرعه لن تكون له نهاي .
    الارض هي الاب والام والاخ والشرف والكرامه .وآل الاسد ونظامهم القمعي المستبد مهما طال الوقت سيحاسبون على جرائمهم وبيهم لارضنا ومعالمنا .سوريا وطن من لاوطن له وحضن لكل العرب ولم تتوانا يوما بضم كل مظلوم ولكن ابتلانا الله بالبهرزي اكبر ظالم في العصر و.

    ردحذف
  2. كل يوم تكبر في اعيننا استاذ ناصر
    حقيقة اصبحت بنضرنا بوصلة تهدي للطريق الصواب تحياتي لقلمك الراقي

    ردحذف