الأسد ورهاناته الخاسرة
يعتقد بشار الأسد أنه خرج من عنق الزجاجة التي
حبسته الثورة داخلها بفعل صمودها وصدق أهدافها ورؤيتها، بل يظن أن الثورة هي التي
دخلت في الزجاجة التي يظن أنه خرج منها، كما يعتقد أن سلطته سلمت من المحاصرة
داخلياً وخارجياً.
فهو ينظر إلى الأمور نظرة ضيقة أضيق من
فوهات البنادق والمدافع، كما ينظر إلى الواقع نظرة غبارية أشد قتامة من دخان
الحروب ولهيب المعارك. في حين كان عليه أن ينظر إلى المشهد بشموله وبكل أبعاده،
حقوقياً وإعلامياً وسياسياً وتاريخياً ومستقبلياً....
ولو فعل ذلك لعلم أن نذر الخسارة قادمة
إليه حثيثة تخبره بأن دوره قد انتهى منذ زمن بعيد، وقد تم تمديد إقامته شكلياً
فحسب، ريثما يتمكن حلفاؤه من تحقيق بعض المكاسب باسم تلك الواجهة المنهارة.
لو فعل ذلك لعلم أن الثورة السورية متجددة
متجذرة، وأنها تمتلك عوامل قوتها بداخلها، وتستطيع إنتاج نفسها في كل مرة، مهما
اشتدت الصعوبات وتعاظمت العقبات.
علم طاغية سورية أكثر من غيره ما شكلته
المظاهرات على سلطته من مخاطر، لا تعادلها الحروب، ولا تجاريها المعارك، فهو لا
يستأنس إلا بصوت الرصاص، ورعد المتفجرات، وهدير المجنزرات، وصراخ المصابين، وأنين العالقين تحت الأنقاض،
ورائحة الدماء، ولفح النار والدخان والغبار، في الوقت الذي يستوحش من صوت الهتافات
السلمية، وينخلع كيانه بمطالب «إسقاط
النظام» ورحيله.
ما فعله بشار الأسد أنه استدعى وحوش العالم
لقمع الشعب السوري، وإهانته وطمس هويته، ومسح كيانه، وكان يظن أنه سيكون بمنأى عن
الإهانة، لكنه اليوم يتلقى الإهانة تلو الإهانة من حلفائه، ليبقى شعب سورية شامخ
الرأس مرفوع الجبين.
لا يشك أحد بأن بشار الأسد كان بمثابة
الذيل للدب الروسي! هكذا هو، وهكذا وصفوه، وهذا يعني أن انسحاب الدب الروسي سيجر
خلفه الذيل الرخيص، فلا بقاء للذيل حين ينسحب صاحبه.. بل سيجره خلفه.
ومن المؤكد أن
بشار الأسد سجّل نفسه كأكبر مجرم حرب في التاريخ، والمقارنة بين الأسد وبين أي
مجرم سبقه يجب أن تكون شاملة لكل أنواع المقايسات، من حيث عدد الضحايا ونوع
الجرائم والمدة الزمنية التي ارتكبت فيها الجرائم، وطبيعة الفئات المستهدفة
بالجريمة، لذا فالتاريخ سيذكر الأسد بأقبح الأوصاف.
سوّق الأسد نفسه
بأوصاف مهيبة كوصف «القائد الاستثناء» و«الرجل الضرورة» و«الظاهرة» و«الرمز» ليكتشف
العالم كله أنه كان ظاهرة استثنائية في الإجرام والقتل، ورمزاً للإرهاب والعدوانية،
وأنه كان محدوداً لا يفكر إلا باتجاه واحد، وهو سحق المعارضين، وإشعال الحروب
الطائفية في كل مكان، وليكتشف العالم أن الضرورة التاريخية والإنسانية تقضي
بمحاسبة رجل الضرورة على جرائمه الشائنة.
لا يمكن اعتبار
بشار الأسد زعيما قوميا عربيا، لأنه ربيب القومية الفارسية الحاقدة على كل ما هو
عربي، ولا يمكن اعتباره رجلا وطنياً فهو الذي دمر الوطن ثم عرضه للبيع في المزاد
العالمي ليبيعه «خردة» وعلى وضعه الراهن دون ترميم.
ولا يخجل «الرئيس
البائس» بشار الأسد وهو يتحدث عن انتصارات جيشه المهزوم في أكثر من حفلة حربية
أمام الثوار، وهو الذي يعيش معظم أوقاته محتجباً عن الأنظار، ولا يظهر على الناس
إلا للضرورة القصوى، وتحت حراسة إيرانية أو روسية- حسب جدول المناوبات- فهو القاتل
المطلوب لأكثر من عشرين مليون شخصاً، والمطارد من لعنات الناس وغضبهم.
لو كان بحق
منتصراً فأين المسيرات المليونية الزائفة التي كنا نراها تملأ الساحات العامة
وتجوب الطرقات؟ أين الهتافات الصادحة بحياة القائد الأوحد والرمز المبجل؟ أين
مفردات القداسة التي كانت تتسابق وكالات إعلام النظام والإعلام الموازي على بثها
وكأنها سبق صحفي؟ كلها تلاشت وهرست تحت ضربات الثائرين الأحرار.
يمكن وصف بشار
الأسد اليوم بجلد الأفعى، فقد ماتت الأفعى وبقي إهابها اليابس، فالأسد انتهى من
آلاف السنين وبقي جلده، ولا يخشى جلد الأفعى إلا كل هلوع جزوع، من الذين سكن الخوف
في كيانهم واستطابوا ذل العبودية والخنوع.
إننا أمام لحظة فارقة من نضال الشعب السوري
الثائر الصابر، فلم يعد هذا النضال موجهاً فقط تجاه النظام، وإنما هو أمام التحدي
الجديد، المتمثل في مواجهة الاحتلالين الروسي والإيراني لأرض سورية، وهو ما يتطلب
قراءة سياسية مختلفة، بعيداً عن الأوهام والرغبات
التي ما زالت تطبع القراءة السياسية لكثير من النخب، وتجعلها تقع في مطب
الخفة السياسية في طرحها ورؤاها وبرامجها، مع أنه من المؤسف أن الشعب الثائر أدرك
هذه الحقيقة مبكرا، لكن من المفيد أن يتفق النخب والشعب على أن سورية تتعرض لغزو
همجي ولا بد من أخذ المبادرة لتحريرها من قبضة الطغاة وسطوة الغزاة.
ثورة الكرامة السورية اليوم لا تواجه الأسد
فحسب! فلو كانت القضية تتعلق بذلك الوريث لانتهت الأمور من الصولات الأولى، لكن
الثورة تواجه حلفاً إيرانياً طائفياً حاقداً، جلب إلى سورية وحوشاً لا يشفي غليلها
سوى اللحوم الطرية من أطفال الوطن، وحوشاً معبأة بدوافع الثأر والانتقام. كما
تواجه زعيماً روسياً يعشق المغامرات، وقد وعد شعبه بإعادة روسيا القيصرية إلى
منصات التتويج على مذبح الجريمة المنظمة.
لم تتفجّر الثورة السورية في وجه البغي
والطغيان من أجل الهزيمة والإخفاق، فزمن الهزائم
مضى، وزمن الإخفاق قد انقضى، وتكلفة الهزيمة هي أكبر بكثير من تكلفة المضي
في الثورة، وثمن الاستسلام هو أكبر بكثير من ثمن الصمود، وأحرار سورية أحرقوا
السفن ولن يلتفتوا إلى الماضي المظلم.
الشعب الثائر أخذ بزمام المبادرة ، ودفع
الأثمان الباهظة لنيل حريته وانعتاقه من ربقة الجلاد الوغد، ولم يعد بوسعه القبول
بماضي المهانة، حيث كانت تدفن الكرامات حيّة، وتمرّغ أنوف القوم الكرام بالتراب.
الكاتب والباحث السياسي: عبد الناصر محمد.
ليست هناك تعليقات